بديعة مصابني| أول أكاديمية فنون في مصر
في البداية تأتي المأساة، ليست الأحداث السيئة مجرد ذكريات مرة تعيش بداخلنا، بل من يفهمون الحياة حق الفهم يمكنهم ان يحولوا تلك الذكريات المريرة إلى دوافع لتكوين اسطورتهم الخاصة، لتتحول الذكرى السيئة لمحرك ووقود يدفع الإنسان للإمام وكلما كانت إرادتك وقدرتك كلما كانت اسطورتك خالدة وباقية ويعرفها القاصي والداني، مثل اسطورة بديعة مصابني.
في فترة كانت الراغب في دراسة فنون التمثيل والموسيقى والرقص من الموهوبين الشباب امام أمرين لا ثالث لهم، إما البحث عن فرصة سفر للخارج في بعثة دراسية على نفقتهم او نفقة وزارة المعارف، او الالتحاق بأكاديمية الفنون المصرية والتي كانت تعرف باسم فرقة بديعة مصابني.
بديعة التي جاءت من البرازيل تحلم بالفن وشهرته ومجده، أسست أكاديميتها الخاصة جدا، عام 1929 في ميدان الأوبرا، ليصبح كازينو بديعة هو قبلة الموهوبين والفنانين في مصر من كتاب وموسيقيين ومطربين وممثلين وراقصات، ولكن قبل التأسيس كانت مأساة بديعة الحقيقية.
ولدت بديعة في 25ة فبراير عام 1892 في مدينة حلب السورية، والدها كان يمتلك مصنع لإنتاج الصابون وكانت عائلتها من العائلات الميسورة في البلدة ولكن فجأة احترق المصنع وضاع مع الثراء، بل توفي والد بديعة من الصدمة وليكتمل الفصل الأول من المأساة، يوم عزاء والد بديعة سرقة مصوغات ومجوهرات والدتها، لتصبح بديعة وعائلتها بدون أموال نهائيا، ويضطر شقيقها للعمل في أحدي الخمارات القريبة من المنزل.
ولكن الفصل الثاني من مأساة بديعة جاء حينما كانت في عامها السابع حيث قام صاحب الخمارة التي يعمل فيها شقيقها باغتصابها، الأمر الذي أثار حفيظة المجتمع التي تعيش فيه وتحولت قضية الطفلة بديعة إلى قضية رأي عام، ولكن القضاء حكم على الجاني بالسجن عام وغرامة 200 ليرة، لتحاصر بديعة الطفلة ألسنة الجيران وفجأة تضطر العائلة للهجرة من سوريا نهائيا ولكن كيف وإلى أين.
جمع جميع افراد اسرة بديعة مدخراتهم واستدانوا ورهنوا منزلهم لتوفير نفقة السفر واجرة الباخرة من سوريا إلى البرازيل، وفي البرازيل أنقط اى خيط بالعائلة ولم يعرف أحد مصير بديعة إلا بعدما عادت بديعة وروت انها انضمت لإحدى مدارس الراهبات الداخلية وهناك تعلمت اللغات خاصة الإسبانية والإنجليزية والفرنسية، وظهرت مواهبها في الرقص والتمثيل، وساهمت الراهبات في تنمية تلك المواهب.
وعام 1910 جاءت بديعة إلى مصر للمرة الثانية، بالفعل جاءت بديعة وهي طفلة مع والدتها إلى مصر قبل الهجرة للبحث عن شقيق والدتها الثري الذي يعيش في القاهرة ولكن قادهم القدر لقبره في محافظة الشرقية حيث توفي شقيقها بعدما أفلس.
عام 1910 كما اسلافنا عادت بديعة إلى مصر وكان عمرها وقتها ما يقرب من 19 عاما، انضمت إلى فرقة " جورج أبيض وبعدها فرقة عزيز ثم استقر بها المطاف في فرقة احمد الشامي، والذي أصبحت نجمة من نجمات المسرح في مصر، وقامت ببطولة العديد من المسرحيات والاستعراضات حتى أسست الكازينو الخاص بها عام 1929 بميدان الاوبرا.
يكفي ان نلقى نظرة سريعة على أسماء من كان في فرقة بديعة مصابني من أسماء ونجوم في مجال الكتابة ستجد العديد من الكتاب وعلى رأسهم أبو السعود الإبياري، وستجد في مجال الموسيقى والطرب الأسماء الأتية على سبيل المثال" محمود الشريف محمد فوزي فريد الأطرش أسمهان فريد غصن محمد الكحلاوي وكارم محمود وغيرهم الكثير والكثير".
بينما في مجال الرقص يمكن ان نقول ان كل راقصة اشتهرت كانت فرقة بديعة محطة في حياتها " تحية كاريوكا، سامية جمال، هاجر حمدي، ببا عز الدين -والتي كونت فرقة بعد ذلك قبل ان يتم دمج الفرقتين في فرقة "بديعة وببا-، وزينات علوي، سعاد محمد" وغيرهن الكثيرات.
في مجال المونولوج يكفي القول أن الفرقة ضمت شكوكو وإسماعيل ياسين والمونولوجيست الأشهر وقتها سيد سليمان والممثلة زينات صدقي وسعاد مكاوي"، كل هذه الفرقة الكبيرة كانت تحت قيادة ورئاسة الفنان الكبير بشارة وكيم.
بديعة التي كانت تجلس على عرش المسرح الاستعراضي لم تكن مجرد راقصة او صاحبة فرقة بل كانت كشاف مواهب ومعلم من الدرجة الأولي، سواء في فنون الرقص أو فنون التمثيل أو الغناء، يكفي القول ان محطة بديعة مصابني كانت المحطة الأخيرة قبل الشهرة لأغلب الأسماء التي ذكرناها في الأعلى.
وفي الخمسينات قررت بديعة مصابني العودة إلى الشام واستقرت في لبنان هناك حتى وفاتها في 23 يوليو عام 1974 بمستشفى تل شيحا بمدينة زحلة اللبنانية.