بروفايل| محسنة توفيق.. ثائرة في حواري المحروسة
يأتيها اليقين دومًا عندما تسرع الخطى إلى الشارع، في الحارات تبحث عن نفسها، عن الثورة، عن الراحلة أمها، عن بريق انتصار غاب عن عيون جمال عبد الناصر، يوم التنحي، عن يوسف شاهين، الذي لم تغفر له خطيئة "اليوم السادس"، عن الطلاب والعمال الثوريين.
شغف الالتحام بالبسطاء في الأزقة، مجد شخصي يضاهي تألقها على خشبة المسرح، إنها المرأة التي اختزلها المشاهدون في "أنيسة بدوي" مربية "علي البدري" في ليالي الحلمية، القديرة "محسنة توفيق".
ونس الحارة
بعد أربعة أشهر، من بداية الحرب العالمية الثانية، عام 1939، انجبت فاطمة هانم "التركية"، ابنتها الثالثة "محسنة" – لاحظ رمزية اختيار أسماء البنات "فضيلة، يُسر، محسنة" – في هذه الأجواء، فضل الأب توفيق عبد العزيز، الانتقال مع زوجته، وولده الأكبر علي، وبناته الثلاث، من حي العباسية، إلى شقة في الدور الأرضي في شارع الملكة نازلي (شارع رمسيس حاليًا)، خوفًا من قصف الغارات الجوية.
في سن السابعة، داعب الشارع خيال الطفلة محسنة توفيق، وبدأت تعي أهمية دور الطلبة والعمال في الثورات، وهي تستمع إلى نقاش الكبار وتعليقاتهم إزاء حادثة كوبري عباس، بعدما قام البوليس بمحاصرة المظاهرة التي خرجت من جامعة فؤاد الأول -القاهرة حاليًا- ثم اطلق الرصاص على أكثر من مائتي طالب، وسقط بعضهم في النيل.
تركت حادثة كوبري عباس، أثرًا على محسنة توفيق، وقررت في سن صغيرة، أن تنزل إلى الشوارع الخلفية لشارع الملكة نازلي، ذهبت إلى الحواري الشعبية، تتحدث على سجيتها مع الناس في الأتوبيس والترماي، ومن شباك منزل الأسرة في الدور الأرضي، تكلم المارة، تتعرف على الآمهم، بدأ التشكيل مبكرًا لـ"محسنة"، لهذا كان "التوفيق" دومًا نصيبها.
الحصة الأخيرة
حاولت محسنة أن تغني، لكن لم تصقل خامة صوتها بالتدريبات، مدرس المحفوظات انتبه لذلك الصوت وهي تؤدي القطع الأدبية، ونصحها بالتوجه إلى فرقة التمثيل المسرحي في المدرسة، وفي الحصة الأخيرة ذهبت مع زميلتها من منطلق الفضول، تصادف أن إحدى التلميذات المشاركات تغيبت، فهمست محسنة لزميلتها همسًا: "أنا ممكن أعمل دورها"، هذه الأمنية راقت لحضرة الناظرة، وطلبت من القائمين على العرض، أن تصبح محسنة بديل احتياطي للبنت المتغيبة.
في غرفتها، بدأت محسنة تمارس التمثيل لأول مرة مع كرسي، وشعرت بسحر الفن يتسرب إليها، تلك الحالة التي لازمتها دومًا في مشوارها الفني انطلقت شرارتها الأولى نتيجة حدس مدرس وتشجيع ناظرة، ولم تخيب ظنهما، اتقنت التلميذة أول دور أسند اليها، ما جعل مخرج العمل يقتنع بها، وتقدمه بشكل أساسي، ويوم العرض لاقت اعجاب مدير التربية والتعليم، وقرر أن يعطيها جائزة خاصة "أدوات رسم".
عصفور عبد الناصر
أحبت جمال عبد الناصر، وعشقت الثورة، لكنها رفضت أن يحصر حدث ثوري في قائد، ويُنسى دور الشارع، شعرت بالنكسة مبكرًا حينما تراجعت الحريات، وصدر حكم الإعدام، بعد أشهر من ثورة 1952، على عاملين نظما مظاهرة سلمية بمصنع كفر الدوار اسميها محمد مصطفى خميس، ومحمد عبد الرحمن البقري، في حين يعفى الاقطاعي من المحاسبة.
"ناصر أكثر شخص أحببته لكنه أكثر من تشاجرت معه في حياتي وحبسني، لأنني انتبهت لشيء خطير، وكان لابد أن أنبه الناس له نحن نتعرض لهجوم على أوطاننا، فالثورات من يقوم بها الشعوب وليست القادة، وكونه أن يصادف مرحلة معينة من المراحل وجود ناس مؤهلة لدور في القيادة لا يعنى أنها هي من صنعتها".
قبض عليها بتهمة الشيوعية، وفي المعتقل غنت للسجينات، عن تلك التجربة قالت: "السجن جريمة فظيعة، فأسوأ شيء أن تعتقل الناس بسبب أفكارها، فهذه جريمة في حق الإنسانية لا تغتفر". وفي عهد السادات، تحديدًا عام 1973، عزلت فنيًا وسياسيًا نتيجة مواقفها الثورية، وبعد عام من "بلاش محسنة توفيق"، انتهى العزل.
خطيئة اليوم السادس
التحقت محسنة توفيق بكلية الزراعة، مع حرصها على الاطلاع وتطوير موهبة التمثيل، قدمت مسرحية "مأساة جميلة" لعبد الرحمن الشرقاوي، عام 1962، عن المناضلة الجزائرية جميلة أبو حريد، على المسرح القومي.
في فبراير 1967، تحصل محسنة توفيق -28 عامًا- على وسام العلوم والفنون من جمال عبد الناصر، لتصبح تلك الشابة فنانة قديرة في بداية المشوار الفني.
"سبب نجاحي في الشخصيات التي جسدتها، هو أنني اضبط مشاعري، واحسب المسافة السليمة التي تفصل بين الادراك والمعايشة، يأتي هذا الاجراء بعد أن تتسلل الشخصية وتعايشني تحت جلدي، واعتقد أن هذه هي المرحلة المرهقة في حياة العمل الفني".
بعد أشهر قليلة، تشاهد محسنة، عبد الناصر يلقي خطاب التنحي في بيت أختها "أبلة فضيلة"، في تلك اللحظة اندفعت إلى الشارع، ترفض رحيل الزعيم، في تظاهرة شعبية جعلتها تتأكد أن الحاكم والسلطة يمثلون الشعب، وليس العكس.
عام 1972، وقفت محسنة أمام كاميرا يوسف شاهين، في فيلم العصفور، محاولة سينمائية لكشف الفساد الذي اغتال حلم الثورة، وقدمت دور بهية الذي اعتبره النقاد رمزًا للوطنية، كانت صرخة بهية: " لأ، حنحارب لأ، حنحارب"، في مشهد النهاية، حقيقية ومُلهمة.
"استأذنت من المخرج يوسف شاهين، قبل تصوير المشهد أن نضيف جملة "ح نحارب" ووافق بالفعل، وشعرت أثناء المشهد بأننا فعلًا في هذه اللحظة التاريخية، ويبدو أن ذلك جعلني أبكى بعد تصويره".
بصماتها في المسرح والسينما قوية وواضحة، مع يوسف شاهين قدمت وداعًا بونابرت، واسكندرية ليه، واتفقا على فيلم اليوم السادس، لكنها فوجئت بتصوير الفيلم مع "داليدا"، تثور محسنة للفن، وتذهب إلى شاهين غاضبة: "سقطت الفيلم وارتحت؟"، ولم تغفر له خطأه الفني في اختياره لمطربة لا تمتلك موهبة التمثيل.
مع عاطف الطيب، قدمت الزمار، وقلب الليل، خطواتها السينمائية متأخرة لكن اختياراتها عوضت ذلك، المسرح أخذها سحر السينما، لكن عندما رأت نفسها لأول مرة في فيلم "حادثة شرف"، بكت وقالت: "لو أنني أعرف أن السينما سوف تظهرني بالجمال الخاص بي وبروحي لجريت وراءها".
"كم كنت غبية فلو ركزت في السينما لكنت أكبر نجمة سينمائية في مصر بلا غرور، وقتها كانت عروض المسرح ستتهافت عليّ فهم يرون نجمة بكل المعايير التجارية، والمشكلة التي واجهتني وجعلتني مصابة بعقدة من السينما سببها اضاءة التلفزيون التي كانت سيئة وشوهت فنانين كنت منهم، وعندما طلبتني السينما كنت قد بدأت ألمع في المسرح، كما أن هيمنة تنظيم سياسي مضاد لموقفي قللت فرصي من جديد، وبدأت الشائعات تتردد، وكانوا يرفضون محسنة توفيق".
في التلفزيون، كان دور أنيسة، بداية من الجزء الثاني في مسلسل ليالي الحلمية حصانها الرابح، لدرجة أن البعض نسي بطلة الجزء الأول فردوس عبد الحميد، استطاعت محسنة ان تقدم الدور ببصمة جديدة ومختلفة، ونادرا ما يستطيع الممثل البديل أن يطغى على دور استقر في عقل المشاهد بالممثل الأول، لكن نجح الأمر مع "ماما انيسة"، أو محسنة توفيق، الثائرة التي "تنكش" في حواري مصر المحروسة.