التوقيت الثلاثاء، 24 ديسمبر 2024
التوقيت 03:06 م , بتوقيت القاهرة

ريم بنا.. تهليلة فلسطينية تخيف "السرطانين"



التهليلة الأولى أو ترنيمة البداية في حياة البشر جميعهم تحكي حكاية طفل صرخ متدليًا من رحم أمه، وعند الحديث عن المطربة الفلسطينية ريم بنا فسنجد أن البداية كانت عند أم شاعرة فلسطينية تُدعى زهيرة الصباغ ولدت في حي الناصرة.

وانتمت زهيرة التي ترسم وتجيد التصوير الفوتوغرافي بجانب كتابة الشعر، لأسرة تشارك بالنضال الوطني ضد المحتل الإسرائيلي، وشاركت ابنة العشرين عامًا في الانتفاضة الفلسطينية، وأصيبت خلال المظاهرات بعدة طلقات مطاطية أسقطتها أكثر من مرة، لكنها لم تستسلم وتهرب بل كانت تعود وتشارك من جديد.

لم يكن نضال صاحبة "كرمل الروح" و"زغب اليمام" سياسيًا فقط، ولكن حياتها الشخصية شهدت هى الأخرى نضالًا وتمردًا على القوالب الاجتماعية الجامدة، فكانت من رائدات الحركات النسائية المناهضة للعنف ضد المرأة في فلسطين، وبحسب روايتها استطاعت بعد 7 أعوام الانفصال عن زوجها بسبب العنف، لتبدأ رحلة جديدة وتتحمل وحدها مسؤولية تربية أبنائها وتواصل دراستها وسط انتقاد الكثيرين ودعم القلائل.
الشاعرة زهيرة الصباغ
تواجه الأم انتقاد البعض لقرارها للانفصال، ويتهامزون بشأن كتابتها لخواطر تعبر بها عن وجدانها وذاتها، تستعير السيدة أسماءً أخرى غير اسمها لتكون ستارًا للكتابة، تتخلص منها فيما بعد ليصبح لدينا اسم واحد فقط "زهيرة الصباغ" والدة ريم بنا.

"كنت مثل أنثى الحيوان وضعت أطفالي في فمي كي أحميهم، بدأت من جديد من تحت الصفر، كنت أنام على الأرض، ربيت ريم وأخوها على التمرد ضد الظلم والمقاومة، واحترام الإنسانية والأخلاق، عرفتهم المثل العليا والوطن وأهمية العلم... ريم مرآة لروحي وتشبهني في التمرد على قوالب المجتمع والنضال".

تهليلة فلسطينية صغيرة
الطفلة ريم كانت تحب الاستماع لمارسيل خليفة وأحمد قعبور وخالد الهبر، ونشأت على حب التراث خاصة "التهليلة الفلسطينية" تلك الكلمات التي يغلب عليها الطابع الحزين وتغنيها الأمهات الفلسطينيات لصغارهن في حجر نومهم لتحكي عن همومهن والحنين للأهل المشتتين واللجوء والمنفى.

وفي أحد المهرجانات التي تُحيي التراث الفلسطيني شاركت الصغيرة وعمرها لم يتجاوز 10 أعوام بغناء إحدى التهليلات،إذ دعمتها وشجعتها والدتها على تقديم التهليلة فنًا تراثيًا ونقلها من عالم غرف نوم الأطفال إلى الجمهور على خشبة المسرح.

ريم بنا
أعدت الأم تهليلة قديمة اسمها "ياليل ما أطولك" لابنتها الصغيرة ريم، انتقت لها أبياتًا بعينها، شرحت لها كيف كانت تغنيها الجدة، وأضافت إليها الصغيرة من روحها بجانب إرشادات الأم، فأصبحت التهليلة مرتبطة بصوت ريم، ولعل تهليلة "يا ستي" من أجمل التهليلات الي تشدو بها ريم.

ومثلما انتقد البعض حب الأم للأدب وكتابتها لخواطر تعبر بها عن ذاتها، انتقدوا في البداية أيضًا سفر ريم لروسيا لدراسة الموسيقى، حاولوا إقناع الأم أن تدرس الطب لكنها كانت تقول "هي رايح تدرس موسيقى مش طب" وتدرس ريم بالفعل الموسيقى 7 سنوات.


وخلال دراسة ريم للموسيقى في روسيا أصدرت ألبومين هما: ألبوم "جفرا" عام 1985،  و"دموعك يا أمي" عام 1986، وخلال رحلة ريم الغنائية التي زادت عن 25 عامًا قدمت 13 ألبومًا غنائيًا تجمع فيهم بين التراث والغناء للأطفال والموسيقى الحديثة ودراساتها للموسيقى في روسية، بينهم: " الحلم، جفرا ، مرايا الروح،  وحدها بتبقى فلسطين،  مواسم البنفسج، نوار نيسان، لم تكن تلك حكايتي،  تجليات الوجد والثورة.

ريم لا تعتبر صوتها مجرد وسيلة للغناء والاستمتاع والرزق فقط، بل هناك ما هو أهم صوتها سلاح فلسطيني تستخدمه في الحفاظ على التراث والمقاومة بجانب مشاركتها في التظاهرات والحجارة، لا ترى أن الصوت يموت بموت صاحبه بل يبقى يتردد وينتشر في كل بقاع العالم ناقلًا صورة يحاول أن يخفيها المحتل عن العالم، الصوت يخيف المحتل.


وتغنت ريم بكلمات تحمل الحب للوطن وتخاطب الإنسانية وتعبر عن اللاجئين وحالهم وتبكي الشهداء مفتخرة بنضال الحجارة الذي لا ينتهي إلا بانتهاء الاحتلال، تبكي في إحدى أغانيها الطفلة سارة التي لم يتجاوز عمرها سنتين إذ اغتالها قناص محتل غادر.

"لازم نتشبث بالتراث لأن المحتل يحاول سرقته الزي والغناء والهوية والتطريز والطعام وكل شيء"


غنّت ريم لكبار شعراء الوطن العربي ونهلت من التراث فذهبت للحلاج وابن الفارض بحثًا عن كلمات الحب والتصوف، وأكدت بعذوبة صوتها قول محمود درويش "أثر الفراشة لا يُرى ولا يزول"، وروت لنا كلمات بدر شاكر السياب عن الموت والميلاد والمطر في "أنشودة المطر".

وحكت ريم للعالم عن "ذات يوم" كتب تفاصيله سميح القاسم في قالب شعري غنائي، وحدثتنا أيضًا بلسان توفيق زياد عمن يعطي نصف عمره لإضحاك الأطفال الباكية ويعطي النصف الأخر للحفاظ على الزهور.

بالطبع ابنة الشاعرة المناضلة زهيرة الصباغ يجب أن تتغنى بكلماتها، ومن أهم  الأغاني التي استعانت ريم بكلمات والدتها كانت "كرمل الروح" تلك القصيدة التي كتبتها الأم إلى ابنها المعتقل لتغنيها الشقيقة  مخاطبة نسيم بحر حيفا أن يكون حنونًا على ابنها في زنزانته، وبكت الطفلة "سارة" كما أشرنا من قبل بغناء قصيدة من كلمات والدتها. 

"ريم تأخذ ما تريد من شعري دون أن أعلم  بعد التسجيل ويسعدني غناءها لكلماتي جدًا".

ومثل أمها ريم انفصلت عن زوجها في الفترة الأخيرة، وواصلت السعي للحفاظ على أبنائها الثلاثة وتوفيراحتياجتهم فعملت السيدة التي اختيرت شخصية العام الثقافية بفلسطين 2016، بتطريز مشغولات يدوية تحمل روح التراث  لتساعد في المعيشة حتى لو بثمن قليل، بجانب مواصلة النضال ضد سرطاني الاحتلال والمرض، لتبدأ ريم تهليلة جديدة وهي في الأربعين من عمرها.

تهليلة أمل تهزم المرض
تعرف هي عن السير قول معلمها سميح القاسم "منتصب القامة أمشي.. مرفوع الرأس أمشي"، ففي عام 2009 بدأت ريم نضال جديد بجانب نضالها ضد سرطان يدعى المحتل الإسرائيلي، علمت ريم بإصابتها بمرض سرطان الثدي وبدأت في العلاج وبفعله تساقطت إحدى ضفائرها وهي تسير بحي الناصرة كما يسقط الشهيد برصاص العدو، لكنها حملت ضفيرتها وواصلت السير من دون خجل. 

وفي "ذات يوم"  كانت ريم عائدة إلى منزلها مقررة أن تخفي عن طفليها  خبر المرض - كانا في سن أقل من العاشرة- لكن البعض نصحها بالإفصاح لأن الأمر كله سيكشف بعد تناولها الكيماوي وسقوط شعرها، تستجيب ريم للنصيحة وتتماسك وهي تخبر طفليها بمرضها ممهدة أن شكلها ربما يتغير بفعل العلاج، حتى يسأل أحدهما ببراءة "ماما بس إحنا  هنفضل نعرفك كدا بعد ماشكلك يتغير؟".

"العلاج أفقدني شَعري .. لكنّه لم يُفقدني ابتسامتي .. ولا روحي المرحة المُفعمة بالتفاؤل والحب والحلم... مثل ما بناضل ضد الاحتلال بناضل ضد السرطان اللي احتل جسدي".

تنتصر ريم على مرضها بالحب والأغاني والابتسامات وورد جمهورها التي زينت نوافذ منزلها وغرفتها بالمستشفى، تطرده من أرضها عام 2014 ثم يعود مرة أخرى عام 2015 لتعلن إنه مرض مزمن يختفي ثم يعود تدريجيًا ببطئ ويقسو عليها مرة أخرى لكنها لن تستسلم.


وتوجه ريم رسائل للمرض عبر فيس بوك منهم "لا يهمني أنك ترغب بأن تُلازمني كمرض مزمن .. ولن أتعب إن تناولت كل العقاقير والأدوية الكيماوية كي أُبقيك أبدًا عاجزًا عن الحركة.. ستظل هكذا كما جعلتك منذ خمس سنوات ونصف من عمري "وعكة خامدة.. تتحوّل إلى عابرة".. لا تنسى أني أنتصر عليك دوماً بالأغاني والحب وابتسامة لا تفارقني حتى وإن بكيت.. ستنام نومتك الأخيرة...".

وفي 24 يناير من عام 2016، أعلنت ريم عن عدم مقدرتها على الغناء، إذ هاجم جسدها مرض جديد أصاب سلاحها الأهم صوتها "شلل الوتر اليساري" جعل صوتها مبحوحًا خافتًا لدرجة لا تسمع، لكن ريم لم تيأس أيضًا وأعلنت أنها ستغني حتى لو تغير صوتها ستجري تدريبات عديدة لتغني بهذه الطبقة الجديدة، وإن لم تستطع فربما تكون هذه رسالة لبدء نشاط جديد وعمل جديد قد يكون "التطريز أو الكتابة أو التمثيل". وأمور عديدة يمكن أن نفعلها بالحياة.. فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة.

سأنتصر.. لأنني قررت ذلك.. ولأني أحب الحياة.. ولأني أحب الناس.. ولأني أريد أن أغني أكثر وأقدم لشعبي ولبلدي أكثر".

ريم تسعى للانتصار على المرض لتواصل مواجهة مرض آخر قديم، لتغني للاجئين التي ترى أنها مازالت مقصرة في حقهم رغم أنها تعرضت لقضيتهم في أكثر من أغنية لعل أشهرهم أغنية "الغائب" التي رصد فيها الشاعر راشد حسين مصادرة أملاك الغائبين والتي كانت سببًا في اتهامها بالإلحاد. 


ويبقى صوت ريم بنا يردد تهليلات فلسطين ويخيف الخبيثين أملًا في الانتصار"ذات يوم".