أفوكاتو رأفت الميهي المتصالح مع الواقع
في حياة كل مبدع عملٌ ما يُمثل القمة في تاريخه. عمل ما يطفو لذاكرتك فورا، بمجرد سماع اسم صاحبه. بالنسبة لي وبمجرد سماع خبر وفاة السيناريست والمخرج المصري المبدع رأفت الميهي بعد صراع طويل مع المرض، ظهر فورا اسم الأفوكاتو ليحتل هذه المكانة من بين كل أعماله.
ما الذي جعل هذا الفيلم العبثي يحتل هذه المكانة؟
الإجابة عن السؤال تستدعي بالضرورة نظرة تأمل لحياة الميهي نفسه قبل الوصول لهذه المحطة الهامة في تاريخ السينما المصرية.
تخرج الميهي في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، لكنّه لم يحتمل وظيفة التدريس الروتينية، لينضم سريعا لمؤسسة السينما في فترة رائدة، كانت فيها تحت إشراف المخرج الكبير صلاح أبو سيف.
فيلمه الأول كسيناريست مال للجدية ولفت الأنظار (جفت الأمطار)، وشكل لاحقا ثنائيا متميزا مع المخرج كمال الشيخ، كانت باكورة إنتاجه فيلم غروب وشروق عن رواية لجمال حماد.
في أغلب أعماله الأولى كسيناريست أبعاد سياسية واضحة وطبيعة جدية، انتقلت إلى تجربته الأولى كمخرج في عيون لا تنام 1981 عن مسرحية يوجين أونيل رغبة تحت شجرة الدردار قبل أن يتوقف قليلا ويعود بالفيلم الذي غير كل شىء في مشواره الفني (الأفوكاتو).
تراكم هذه الخبرات سينمائيا قبل الأفوكاتو، وتوازي هذه الفترات مع أحداث ساخنة جدا ومتلاحقة ابتداء من نكسة 1967 مرورا بحرب أكتوبر 1973 وفترة حكم السادات التي شهدت أعاصير عديدة، مثل مظاهرات 1977 بعد رفع أسعار الخبز.. معاهدة السلام مع إسرائيل.. التحول اقتصاديا بشكل حاد وسريع لنظام السوق الحر مقارنة بعهد عبد الناصر.. وأخيرا اغتيال السادات مطلع الثمانينات، وبزوغ الإسلاميين كقوة مهمة في المشهد العام. كلها أحداث شكلت بالتأكيد واقع ساخن جدا ومضطرب في فكر الميهي، وتركت بصمة على الفيلم.
هذه مرحلة أصبح فيها الواقع المصري أكثر غرابةً وتعقيدًا من أي تحليل جدي. مرحلة تشابك فيها كل شىء لدرجة أصبح معها الواقع عبثيا. مرحلة تحتاج إلى نموذج لا يحاول حل مشاكل هذا الواقع، بقدر ما يسعى للتعايش معه. مرحلة تحتاج إلى المحامي حسن سبانخ!.. أو صبانخ كما ينطقها أحد أبطال الفيلم، لمزيد من التناسق والانسجام من الناحية العبثية!
سبانخ يعرف الكثير عن كل شىء. يعرف رموز الدولة الشمولية وجرائمهم (سليم أبوزيد - صلاح نظمي). يعرف كيف سمح التغير الاقتصادي السريع ببزوغ حمقى لكن أذكياء في صناعة الثروات (حسونة محرم - حسين الشربيني). يعرف نفسية الموظف المصري، الساعي خلف لقمة العيش (عبد الجبار - على الشريف). يعرف كيف يتعايش خارج السجن أو داخله.
سبانخ هو الرجل الذي لم يعد مهتما بتغيير الواقع، بقدر ما يحاول الاستمتاع بكل لحظة فيه لأقصى درجة. الرجل القادر على الاستمتاع بشاطئ البحر داخل السجن. الرجل المستعد لممارسة الجنس بشكل عفوي وفوري في أي زمان ومكان! الرجل الذي لا يمانع أي شىء وكل شىء، لأن مصر من حوله أصبحت تحتمل كل شىء.
وصل عادل إمام للنجومية قبل هذا الفيلم، لكن يمكن اعتباره ضمن محطاته المعدودة من حيث النزعة التجريبية. وليست مصادفة بالتأكيد أن الفارق الزمني بينه وبين تجربة أخرى مهمة وهى الحريف مع المخرج محمد خان، بسيط جدا.
لأسباب تتعلق بتكرار المصطلح إعلاميا، وببعض أفلام الميهي بعد الأفوكاتو، تم حشر الفيلم بطريق الخطأ تحت تصنيف (الفنتازيا). الوصف غير دقيق ولا يعبر عن هذا الفيلم الساخر بالأخص.
للميهي أفلام عديدة جيدة لكن سيظل الأفوكاتو غالبا جوهرة مشواره الفني التي لا يمل الجمهور من مشاهدتها. ليس فقط لأن الفيلم فقط بكل المعايير جيد جدا، ولا لارتباطه بنجم في وزن عادل إمام، لكن بسبب استمرار نفس الواقع العبثي الذي لا يحتمل مناقشات جدية. كلنا بدرجة ما (صبانخ)!.. أو على الأقل نسعى لذلك في مرحلة ما!
بقى أن أذكر أن عبثية الميهي في الأفوكاتو على كل قوتها ومبالغاتها، لم تصمد أمام عبثية الواقع وقتها، بعد أن تقدم أكثر من 150 محاميا بدعوى ضد المسؤولين عن تمثيل وإخراج وإنتاج الفيلم للمطالبة بوقف عرضه، والحصول على تعويض مؤقت 101 جنيه، لأن الفيلم يصور رجال القضاء والمحاماة بصورة مشينة!
نال الميهي وعادل إمام حُكما بالحبس أولا لمدة عام، قبل الحصول على البراءة لاحقا في الاستئناف!.. ولك أن تتخيل عبثية هذه المحاكمة الجدية التي تفوق بمراحل كل مشاهد المحاكمات العبثية في الفيلم!
مشهد محاكمة من الفيلم
الطريف أن القاضي الشاب الذي أصدر الحكم الأول بالحبس، أصبح لاحقا أشهر أفوكاتو إعلامي في مصر كلها. وتعرفه حاليا باسم مرتضى منصور!.. رئيس مجلس إدارة نادي الزمالك، والضيف الدائم يوميا على الفضائيات!
الأسطورة تقول: أيا كانت مواهبك في السخرية، فلن يمكنك أن تعادل أبدا سخرية وعبثية الواقع المصري. وفيلم رأفت الميهي العظيم وتوابعه، خير دليل على صحتها.