التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 02:18 م , بتوقيت القاهرة

لماذا نهري

كل يوم له الهري الخاص به.. هذا هو حالنا اليوم. سواء على مواقع التواصل الاجتماعي، أو مواقع الصحف والأخبار، أو في برامج التوك شو.. القاعدة واحدة، وهي أننا يجب أن نهري في كل يوم جديد على خبر جديد أو موضوع جديد مهما كان كاذبا أو مفبركا أو تافها ومهما كان هرينا عديم الجدوى أو شديد الرجعية. المهم هو أن نهري وأن تشتعل مواقع التواصل الاجتماعي. فلماذا نفعل ذلك؟


هناك أسباب كثيرة أرى أنها تدفعنا للهري اليومي. وأول تلك الأسباب هو أن الفضاء الإلكتروني، بمعايير النجومية الخاصة به والمتمثلة في عدد اللايكات والتشييرات، أصبح يُرحِّب بالجَسُور صاحب الرأي لمجرد أنه له رأي، مهما كان غير ذي علم أو دراية في المجال الذي أدلى برأيه فيه. باختصار، يجب أن يكون لك رأي في موضوع الهري اليومي، ولن تغفر لك معايير النجومية الإلكترونية أنك تقاعستَ عن الإدلاء بدلوك في هريةٍ ما بحجة أنك أردتَ التحقُّق من صدقها أولا أو جمع معلومات حقيقية عنها من خارج ويكيبيديا. ومن هنا مثلا نشأتْ هريات الطائرة الرافال وعدم كفاءة دورة الوقود بها، وهريات القانون الذي سيسمح للأجانب بتملُّك الأراضي في مشروع قناة السويس الجديدة.


وثمة سبب ثانٍ للهري هو أن الرأي العام اليوم أصبح يتشكَّل بصورة جماعية أقرب للشلليَّة منها للتكوين الشخصي الموضوعي للمواقف تجاه التطورات في الشأن العام. وبما أن الخروج لمرة واحدة عن الإجماع الذي تؤمن به الشلَّة أصبح يُعامَل معاملة الكفر والخيانة والتلوُّن وبيع القضية، فإنه يصبح من الطبيعي أن يهري كلٌ منا هريا إجباريا كل يوم في موضوع الهري الذي تختاره الشلَّة والذي تقطع فيه برأيٍ لا يقبل التشكيك فيه لأنه - في رأي الشلَّة - عنوانٌ للصواب المطلق والنقاء التام. ومن هنا كانت هريات مثل الهاشتاج الذي خرق قرار حظر النشر في قضية مقتل شيماء الصباغ والذي نشر أصحابه اسم أحد الضباط بوصفه القاتل قبل أن يثبت فيما بعد أنه ليس هو الشخص المتهم بالقتل، وطبعا لم يعتذر كثيرون عن هريتهم الكاذبة لاحقا.


والسبب الثالث هو أننا كمصريين بوجه عام لا نملك حسا علميا ومنطقيا عاليا يُمكنُّنا من التفريق بين الخبر الصحيح غالبا والخبر الذي لا يمكن أن يكون صحيحا، وبالتالي فإن نزعات الهري والتشيير المُتسرِّع لا تجد مصفاة عقلانية تُغربِلها، والنتيجة هي تشييرات من نوعية منع الشطَّافات وتعيين حبيب العادلي وزيرا للداخلية من جديد واختراع طالبة بكلية الآداب صاروخا متعدد المراحل ذاتي الدفع.


وهناك أيضا سبب للهري عنوانه عبادة الترافيك. فالصفحات والمواقع تنشر الأخبار الكاذبة نشرا متعمدا لكي تجلب الترافيك أو الزيارات إليها، ومعروفٌ أنه كلما زاد الترافيك زاد سعر الإعلان وزادت الحصيلة التي ينالها الموقع من غَلَّة إعلانات جووجل. وفي غياب ميثاق شرف أخلاقي للصحافة الإلكترونية، وفي ظل استحالة اعتذار محرري المواقع عن نشرهم أخبارا كاذبة ومفبركة، لا تلوح في الأفق بوادر لحل هذه المشكلة التي أصبحتْ تضرب مصداقية الكثير من الصفحات والمواقع والصحف في مقتل. ومن هنا نشأت هريات مثل برنامج تحديث الفكر الديني الذي قال موقع إحدى الصحف اليومية - كذبا - إن المدعو محمد حسان سيقدمه في شهر رمضان المقبل على شاشة ماسبيرو.


والسعي نحو النجومية الإلكترونية يخلق نصيبا من الهري أيضا. فبعد أن أصبح بعض مشاهير النت، أمثال غادة عبد العال وباسم يوسف وصاحب صفحة كاريكاتير "الورقة"، يظهرون في التليفزيون ويُؤلِّفون الكتب الأكثر مبيعا ويَجنُون أرباحا طائلة، فإن حُمَّى النجومية الإلكترونية باتت حلما يراود الكثيرين، وهو حلم من السهل تحقيقه بواسطة الهري المستمر والقلش الجالب للايكات والتشييرات أكثر من أية وسيلة أخرى. ومن هنا نشأتْ هريات مثل ارتفاع سعر البامية مع دخول الصيف وكأن هذا لم يكن يحدث من قبل أبدا.


وهناك أيضا الهرية الانتقامية، على غرار الشائعة الانتقامية المشهورة في علم النفس. فإذا كنتَ شديد العداء للنظام الحاكم، وإذا كانت الخصومة السياسية عندك تتطور بسهولة لتصل لمرتبة الفُجور في الخصومة والتضليل والكذب العمد لإحداث أي فرقعة والسلام، فلا مانع إذن من أن تهري هريات مثل أن الفوسفات الخام يذوب في الماء أو أن الدولة تراجعتْ عن فكرة إنشاء عاصمة إدارية جديدة بعد ثلاثة أيام من انتهاء المؤتمر الاقتصادي، طالما أن مثل تلك الهريات ستُحدِث فرقعتك المنشودة وستجعلك تشعر بأنك المُعارِض الأمثل الذي تحدثتْ عنه منشورات العلوم السياسية التي وقعتْ تحت يديك.


وكذلك يلعب عدم التكذيب الرسمي السريع للشائعات والفبركات دورا في تصعيد الهري ومنحه قدرة على الاستمرار والتضخُّم ككرة ثلج. والحال نفسه ينطبق على تصريحات بعض الوزراء والمسؤولين التي تتسم بالهزلية وعدم المنطقية والغباء السياسي، والتي لا تتسبَّب سوى في منح قُبُلات حياة متتالية لسلاسل الهري اليومية. وعلى سبيل المثال، فإن التصريح الأخير لوزير التخطيط بأن المصريين من أكثر شعوب العالم سعادة كان في حد ذاته مجرد هرية وفبركة لا يوجد عليها دليل في أيٍ من إصدارات المؤسسات الدولية التي تقيس مؤشرات سعادة الشعوب.


وحداثة العهد بالسياسة وبالاهتمام بالشأن العام ككل سببٌ آخر للهري. فبعض أشهر الهريات صدرتْ شرارتها من صفحات لم يكن أصحابها مهتمين بالسياسة قبل يناير ولم يبذلوا جهدا كبيرا لفهم السياسة بحق بعد يناير. ومثلما قال برنار تابيه الرئيس الأسبق لنادي مارسيليا الفرنسي إن تنظيم فرنسا لكأس العالم 1998 وفوزها به جعلا كل الشعب الفرنسي خبراء ومحللي كرة بين عَشيَّة وضُحاها على نحو ظهرتْ أضراره على الكرة الفرنسية فيما بعد، فإننا كلنا أيضا بعد يناير أصبحنا جميعا خبراء في السياسة، والخبراء طبعا يجب أن يكون لهم رأي مستمر ودلو لا ينقطع مَعينه.


والرجعية التناقُضية سببٌ آخر. فالبعض يزعم أنه تنويري تقدُّمي نُخبوي، ولكنه في الصميم وعند المَحَكَّات رجعي متطرف، ولذلك فحين يجد أن مادة الهري اليومي تتعلق بفيديو كليب  أغنية "سيب ايدي" أو بامرأة رقصتْ أمام الكاميرات في ملاهي دريم بارك، فإنه لا يجد أي مانع من المشاركة مع مَن يهرون.


وهناك أسباب إضافية للهري المتواصل، من بينها الاكتئاب الشخصي لدى البعض والرغبة لديهم في تعميمه على الشأن العام، وكذلك من بينها الفراغ والبطالة، وحقيقة أن أغلب مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في مصر هم شباب دون الثالثة والعشرين وهي المرحلة العمرية التي تبدو اليوم مختلفة تماما في منظومتها السلوكية والقِيميَّة عن أي جيل سابق أو معاصر عرفتْه مصر. وطبعا هناك فبركات الاخوان وصفحاتهم التي أصبحتْ تَلْقَى ترحاب التشيير من خارج المعسكر الإخواني. باختصار، تعدَّدتْ الأسباب والهري واحد.


وفي التحليل الأخير، ليس كل الهري مؤذيا. فبعضه نجح في إحداث تغييرات إيجابية، كما في حالة إجبار وزير العدل السابق على تقديم استقالته بعد تصريحاته السيئة أخلاقيا وسياسيا، وكما في حالة معاقبة قاتلِي الكلب ماكس في الهرم، وحالة منع هدم المزيد من الفيلات والقصور الأثرية في الإسكندرية. ولكن يظل الهري الذي نمارسه كل يوم بوجه عام ليس أداة تغيير أو إصلاح حقيقية وليس أكثر من تنفيسٍ بحاجة إلى دراسة أعمق.