التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 10:01 م , بتوقيت القاهرة

الاندماج حتى الموت

عندما استمعت إلى مقطوعة O Fortuna تحت قيادة الموسيقار أندريه ريو، لم يكن ذلك إلا قريبًا جدا للأسف، كانت إهداءً من صديق، أول ما شد انتباهي، تحت غطاء خلفية موسيقية مُبهرة، كانت الحالة التي عليها الجميع. لم يكن العازفون مجرد أشخاص يعزفون، ولم يكن المستمعون مجرد أشخاص يستمعون، الكل كان في حالة اندماج قصوى، حالة نشوة خطفتني وجعلتني أكثر تركيزًا مع كل حركة. لم يكن فقط الأحياء في حالة النشوة تلك، بل حتى ما يلبسون كان منتشيًا. 

الآن شغّل المقطع وركز في كل شيء.

شاهد "الفساتين السواريه" و"البِذْلات الاسموكن" كيف تتناغم وتمتزج مع حركات الموسيقيين؟ النظرات المُتبادلة بين أعضاء الأوركسترا وبعضهم، وبين المستمعين وبعضهم، وبين الطرفين وبعضهما.

المكان، الإضاءة، الديكور، الموسيقى والموسيقى ثم الموسيقى. تخيّلتُ للحظة، وقد أكون مخطئًا، أن وراء هذا التكوين الخلاب أناسٌ، كلٌ مندمج مع ما يفعل، يرتحلون طوال عشر سنوات، كما يقول "أندريه ريو"، لكل أرجاء العالم، والأوركسترا أصلاً متعددة الجنسيات؛ هولندي، ألماني، هنجاري، تشيلى.

تذكرتني، وتذكرت صديقي، وتذكرت كل باحثٍ عن حقيقة وكل شخصٍ يعيش "النص حالة" وكل من يعمل ما يعمل ولا يدري لما يعمله! كل من يخرج من بيته صباحًا لا يُدرك الفرحة لأنه خارج، كل من لا يُفكر في نفسه وسبب عيشه فقط من أجل أطفاله وأسرته أو حتى من أجل أن يحيا.. فقط يحيا، كل من صار طبيبًا لأنه كان من "الدحاحين"، وكل من صار تجاريًا فقط لأنه صُنف من الفاشلين. كل من يحلُم بأن يترك كل شيء ويجري وراء حُلمٍ قديم مدفون في صحراء كانت فى يومٍ ما بساتين وجنات.

كم نفتقد أن نحيا الاندماج، أن نغوص في أعماق ما نحب فنُبدع قدر ما تُتيح لنا تلافيف الإبداع.

ثم رجعت بنظري إلى مجتمعنا الواقعيّ، وقارنت بينه وبين حركات الأوركسترا التناغمية المُبهرة، وجدت التوازي في حركات أيدي عازفي الكمان، ووجدت العشوائية في حركات أيدينا. وجدت موسيقى تصبح كائنًا حيًّا عندهم، وأحياءً يصبحون أمواتًا عندنا. وجدت دمعة توحد مع عملٍ تندمج معه، ودمعة توحد مع عمرٍ ضائع عندنا.

هذا هو الفرق بين حال المحب المندمج وحال الكاره المُكره.

لم أعتد أن أوجه كلامي للرجل أو للمرأة بل لكليهما، لكن يتملكني إحساس كبير أن من سيفهم كلامي هذا أكثر سيكون رجلاً (أو حتى لو سيدة لكن بإحساس اعتدنا أن يكون رجاليًا).

يخرج كل يوم صباحًا، وفي قلبه دمع وحزن غائر وسؤال لم يُفكر له في جواب. من أنا؟ ماذا أحب أن أفعل؟ ماذا أفعل في حياتي؟ أين صرتُ؟ رجلٌ يبحث عن معنى ولا يجده فى ظل هم العيش والعيشة واللي عايشينها رجلٌ تلمع عيناه في لحظة يجد فيها نفسه، وتدمع عيناه في لحظة يتوحد فيها مع نفسه بعيدًا عن كل الناس. رجلٌ يحلم أن يندمج في شيء اندماج "الخيميائي" في حُلمه البعيد، اندماجٌ حتى الموت فيحيا به إلى الأبد.

صديقي العزيز، يا من تحلُم حُلمي، عندما تنتهي أرجوك لا تنس أن تمر "بالسوبر ماركت" ينقصكم خبز وحليب، وخد الزبالة في إيدك وأنت نازل.

للتواصل مع الكاتب