عبدالوهاب.. وبدايات الأسطورة
طفولة غنائية
ولد محمد عبدالوهاب في 10 مارس عام 1904، بحي باب الشعرية، لأسرة متدينة، فحفظ جزءا كبيرا من القرآن الكريم، وكان يكنّ إعجابا كبيرا بطريقة الشيخ محمد رفعت في التلاوة.
ظهرت موهبته في الغناء مبكرا فكان يردد ما يسمعه من أدوار وأغان قديمة، كما تردد على المسارح لإشباع نهمه الموسيقي. في العاشرة من عمره بدأ في الغناء بين فصول المسرحيات التي تقدمها فرقة "فوزي الجزايرلي". وكان الجزايرلي معجبا بموهبة "الطفل الأعجوبة".
الغناء في الظلّ
استمر عبدالوهاب في الغناء تحت اسم مستعار خوفا من عائلته، إلى أن انضم لفرقة "عبدالرحمن رشدي"، وهناك شاهده أمير الشعراء أحمد شوقي، ولم ترقه فكرة أن يحترف ذلك الصغير الغناء، فاعترض لدى صاحب الفرقة ولم يهدأ له بال حتى استصدر قرارا من حمكدار القاهرة بإيقاف عبدالوهاب عن العمل، الأمر الذي أزعج عبدالوهاب كثيرا وربّى بداخله خوفا من مواجهة شوقي، إلا أن الصدفة ستلعب دورها بعد سنوات من هذا اللقاء المزعج.
خلال فترة التنقل بين الفرق المسرحية والغناء من وراء الكواليس، كان عبدالوهاب قد مرّ بصوته على أدوار عبده الحامولي، وسلامة حجازي، وسيد درويش، الذي التقى بعدالوهاب في الـ 17 من عمره وأسند إليه بطولة الأوبريت الغنائي "شهرزاد". ولكن لم تدم الشراكة بين الاثنين نتيجة وفاة سيد درويش في 1923.
في عام 1922، يقوم عبدالوهاب بجولة فاشلة مع فرقة "نجيب الريحاني" إلى الشام، وفي العام التالي يلتحق بنادي الموسيقى الشرقية (معهد الموسيقى العربية)، وهناك يلتقي بمحمد القصبجي، الذي سيتعلم على يديه العزف على العود وأصول المقامات.
ثم يلتحق بمعهد جوبرين الإيطالي للموسيقى الغربية، ويتخرّج ليعمل مدرسا للأناشيد بمدرسة ابتدائية لا يعطيه تلاميذها الفرصة لإسماعهم أغنيات سيد درويش، فيقرر الفنان البحث عن عمل آخر.
العشرينيات الثرية
في عام 1924، التقى ثانية بأحمد شوقي الذي استمع إليه في حفل على مسرح سان ستيفانو بالإسكندرية، وكان اللقاء نقطة تحول في حياة المطرب الشاب، إذ تبنّاه أمير الشعراء فنّيا وعمل على صقل موهبته وتنمية معارفه في الشعر واللغة وكذلك الموسيقى الغربية، كما شجّعه على تلحين أشعاره.
تتابع المحطات المهمة في حياة المطرب الشاب، فتطلب منه منيرة المهدية في عام 1925، إكمال تلحين رواية "كليوباترا"، لتقديمها مسرحيا بعد وفاة سيد درويش قبل اتمامها، وكأنها إشارة خفية من إشارات المصادفة العجيبة في أن يكمل التلميذ ما بدأه الأستاذ، ليس على مستوى عمل واحد فقط ولكن على مستوى الموسيقى العربية بأكملها.
قَبِل عبدالوهاب، الذي كان في الـ21 من عمره، المهمة الصعبة وفي باله الصورة الأيقونية لأستاذه الرائد المجدّد فحاول إعادة أسلوبه الموسيقي في أعماله الأولى كملحّن ولم يفلت بعد ذلك أيضا من تأثير سيد درويش حتى بعد تحققه كمطرب وملحن ناجح.
في العام التالي اكتسب بعضا من الثقة والطموح فقام بتلحين أوبريت "قنصل الوز"، لفرقة نجيب الريحاني، ونجح العرض وكانت تلك أولى تجاربه في تلحين الأوبريتات. وبدأ في تلحين وغناء كلمات أحمد شوقي فكانت البداية أغنية "شبكتي قلبي يا عيني".
ثم توالت الأغنيات والقصائد إلى أن غنّى عبدالوهاب قصيدتي "ردّت الروح"، و"يا جارة الوادي"، فذاع اسمه بين الطبقة الأرستقراطية، وكتبت مجلّة "الستار" في وصفه: "هل نحن في حاجة إلى تعريف محمد عبدالوهاب، البلبل الصدّاح، والطائر الغرد الذي يحلّق الآن في سماء الفن الغنائي؟". وفي العام التالي سجّل أول إسطواناته الموسيقية من كلمات الشيخ يونس القاضي.
ثم جاءت أغنية "في الليل لما خلي"، التي مثلت نقلة نوعية في فن عبدالوهاب، حيث استعمل فيها إيقاع الفالس وآلات التشيلو والكونترباس والصاجات الخشبية، وأثارت إعجاب الكثيرين بوصفيتها واتخاذها شكل المونولوج الغنائي، الذي بدأه سيد درويش في أغنية "والله تستاهل يا قلبي".
النجاح المستمر لأعمال عبدالوهاب واقتراحاته الموسيقية الجديدة أثارت سجالا واسعا مع كلاسيكيي المدرسة القديمة مثل صالح عبدالحي، وزكريا أحمد، ولكن الفنان الشاب استمر في تحطيم القيود وعينه على اعتلاء قمة الغناء العربي والتفوق على منافسيه الشباب أيضا، فجاءت آخر أبرز أغانيه العشرينية "أهون عليك"، وكان أول مونولوج يتعاون فيه مع يونس القاضي لمنافسة المونولوج الناجح "إن كنت أسامح وأنسى الأسية" من غناء أم كلثوم وألحان القصبجي، أستاذه الأول.