التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 06:24 م , بتوقيت القاهرة

سامحني يا رب

هل تذكر عم عبده حارس العوامة في فيلم "ثرثرة فوق النيل" المأخوذ عن رواية بنفس الاسم لنجيب محفوظ؟ هل تذكر تكشيرة الرجل في جميع المشاهد تقريبًا  تعبيرًا عن ضيقه من مهنته التي تضطره لإمداد "البهوات" زوار العوامة – المملكة- "بالفحم والمعسل والذي منه"؟ هو يعمل بجد واجتهاد "في الحرام" من وجهة نظره، ثم أنه يضيف إلى ذلك "تكشيرة" ليتصالح مع ذاته، ثم أنه يتمادى في التصالح حتى أنه "يسرق" حرفيًا قطعة من حشيش "البهوات"، ثم ينظر إلى السماء بتضرع وعلى لسانه "سامحني يا رب.. دي حتة صغيرة ماتتحسبش ذنب"، مواصلاً  لصق "التكشيرة"  التي تحولت إلى جزء من أسلوب حياته، بعد أن فصل على مقاسه مقدار ووزن وارتفاع ما يعتبره ذنبًا عليه، أو على الآخرين.



نعيشُ في مجتمع متصالح مع ذاته على طريقته.. حيث الأفكار والأحكام تفصيل، وكل المقاسات مطاطة تضيق وتتسع حسب الحاجة، وما تعتبره "حلالاً" عليك، لا مانع من اعتباره "حرامًا" على الآخرين، بل ما تعتبره حلالاً عليك بينك وبين نفسك شاخصًا ببصرك نحو السماء قائلاً بتضرع: "سامحني يا رب"، لا مانع من أن تُعلن على الملأ أنه "حرام" أو "عيب" أو "مايصحش"، وهو مبدأ ينسحب على كل شؤون الحياة بلا استثناء. "سامحني يا رب" .."سامحني يا قانون".."سامحني يا...".. وعلى "المُسامح" دائمًا أن يكون كريمًا حين يتعلق الأمر بك، بينما لست كريمًا أنت بالضرورة حين يتعلق الأمر بالآخرين لأنك حينها تكون "بشر".. ولأن الكمال حينها  "لله وحده".


خذ عندك هذا النموذج الحي على "سامحني يا رب" في إحدى مجموعات "فيس بوك" المخصصة لتداول الأعضاء بيع وشراء ما يمتلكونه من أشياء لا يحتاجونها أو يرغبون في التكسب من بيعها دار هذا الحديث عن لوحة  لسيدة عارية يرغب صاحبها في بيعها.. أنقله لكم حرفيًا مترجمًا عن الإنجليزية.. ما بين "الأستاذ ش" صاحب اللوحة المصري الذي يعتبرها من عمل الشيطان لكن لا مانع لديه من التكسب منها.. و"المستر س" معجب باللوحة أمريكاني  لكنه لا يرغب في الشراء و"الأستاذ م" مصري متفق على أنها من عمل الشيطان، وهو لن يشتريها، لكن لا مانع لديه من البحث عن مشترٍ.



الأستاذ ش:  للبيع.. لوحة مطبوعة بس شكلها مرسوم، للفنان لاري فينسنت جارسيون (1925-2007) منتصف القرن العشرين. فيها  خدش صغيرة أقصى اليسار العلوي للوحة واضح في اللقطة المقربة. المقاسات  117 سم x67 سم .. السعر 2000 جنيه. شكراً للاهتمام. 



مستر س: "واو.. أكيد قرار بيع لوحة زي دي مسألة مش سهلة أبدًا.


الأستاذ ش: صحيح.. عندك حق.. بفكر مليون مرة في اليوم في مسح الإعلان لكن في كل مرة أتراجع في اللحظة الأخيرة.. شيء إلهي يمنعني من تعليق اللوحة في البيت.


الأستاذ م: فاهم  قصدك كويس جدًا  "وجه حزين " .. كلمت صديق عن اللوحة.. يمكن يكون مهتم بيها؟


الأستاذ ش: أهلاً بيكم في أي وقت (وجه ضاحك).



مستر س: لحظة معلش.. مش فاهم.. إيه اللي بيمنعك من تعليق اللوحة؟ دي عمل فني.


الأستاذ ش: شوف يا سيدي المستر س . إحنا عايشين في مجتمع شرقي، ومش مناسب أبدًا إن ابني اللي عنده تلات سنين ونص يتربي وهو شايف أمام عينه كل العري ده (اربع وجوه بيرقصوا حواجبهم)، وأظن كمان إن ده صعب يحصل في أي مجتمع حتى المجتمع الغربي نفسه (وجهين بيرقصوا حواجبهم).. بعدين أنا حتى لسا ماجبتش سيرة الجانب الديني في الموضوع (وجهين بيضحكوا وتلات وجوه بيرقصوا حواجبهم).. وبكل تأكيد يا عزيزي أنا متفق معاك طبعًا أنها قطعة فنية.. لوحة مدهشة.



مستر س: طيب. بس أنا فعلاً برضو مش شايف مشكلة كبيرة يعني. وأيوة بلاش ندخل في مسألة الدين علشان ماحدش بيطلع من الحكاية دي كسبان. إنما أحب أقول إني أكون فخور جدًا بتعليق اللوحة دي في حضور ابني الصغير من غير سوء نية. يعني لو مافيش سوء نية فالعيال مش هاتفكر في الحكاية بسوء نية. أما لو قلنالهم إن ده عيب فهايفكروا كمان بطريقة إن ده عيب. الصحيح إننا بس نقول إن دي عمل فني جميل.


الأستاذ ش: بالمناسبة يا مستر س يمكن يكون عندك حق.. لكن في الآخر دي لوحة ظريفة ومدهشة جدًا جدًا جدًا لدرجة إن أي إنسان بجد بيحب الفن هايحب الفنان المدهش اللي رسمها (وجهين بيلاعبوا حواجبهم).



مستر س: أنت عندك حق فعلاً يا صديقي، اللوحة جميلة فعلا لأي شخص يحب إنه يعلقها. إحنا الاتنين عندنا حق. وده الشيء العظيم. إحنا الاتنين عندنا حق وفي الآخر هايفضل إن ده عمل فني جميل. شكراً على إنك شاركتنا بيه.


الأستاذ ش: طيب بقى بمناسبة إن لاري فينسنت اللى راسم اللوحة دي فنان أمريكاني فإنت ممكن يعني من فضلك ممكن تكون عارف تسوى كام؟ علشان أنا شفتها في معارض وعلى موقع eBay للمزادات وفهمت إنها ممكن تسوى ييجي 10.000 دولار!!!! صحيح الكلام ده؟


مستر س: الحقيقة أنا ماعرفش أي حاجة عنه. أمريكا فيها فنانين كتير. وماعنديش أي فكرة تسوى كام.



ولا تعليق سوى "سامحنا يا لاري فنسنت" .. سامحنا يا فن....