التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 09:42 م , بتوقيت القاهرة

سيجارة بول شاوول.. خطأ جميل كالشعر

أكتب نصا ناثرا ملموسا شهوانيا مشهديا. - بول شاوول


قليلة هي الكتابات التي اهتمت بالسيجارة كتيمة جمالية يمكن الإتكاء عليها لانجاز مشروع كتابي، الشاعر اللبناني بول شاوول قرر في لفتة كتابية نادرة، تخصيص كتاب كامل للسيجارة فظهر ديوان "دفتر سيجارة" الصادر عن دار النهضة العربية في 2009.


ربما ذلك يجعل الشاعر رائدا في الاحتفاء بالسيجارة التي يفتتح بها يومه ولا يغادره سوى بسيجارة أخيرة، الشاعر الذي يفضل سجائر "أنتيجو توسكانو"  ويدخّن مائة سيجارة يوميا، أفرد لـ"الشمس التي تشرق بين أصابعه" 100 نص في 130 صفحة من المديح والتشهّي.


الديوان كما يقول غلافه الأخير "يدور بالكامل عن تجربة الشاعر مع السيجارة التى لم تتخلف عن مرافقته، وكأنها ملاكه الحارس، لم تفارقه على امتداد سنواته من المراهقة المبكرة وحتى المشيب، نجحت معه البكالوريا، وتظاهرت معه فى الجامعة، وهربت معه من منطقة إلى منطقة أثناء الحروب، وهاجرت معه، ونجت معه عدة مرات وعادت معه، لم تتخلف السيجارة كثيرا عن مرافقته، ولا هو تخلف عنها، فهما اثنان فى الطريق الطويل المجهول".



بأسلوب سلس، يبدو سهلا ومكررا أحيانا، يدخل الشاعر مع قارئه عالم السيجارة، ذلك الكائن المعذّب بالمطاردة والاحتراق، ومعه كثير من حمولة الأسئلة والتأملات الحياتية التي تتناثر وسط الكلام عن حياة السيجارة وعوالمها المصاحبة، يأتي في الديوان عالم كامل من التصورات والحالات مرتبط بالسيجارة رفيقة الشاعر وأنيسته وراعيته المخلصة.


سيجارة شاوول تمتلك "ذاكرة مكانية" أيضا، فكل مقهى يذكّره بسجائر معينة كان يدخّنها حين يرتاده. مثلا المقاهي البيروتية كـ "الأوتوماتيك" يذكّره بسجائر "Players" وعلبتها الأنيقة، ومقهى "اللاروندا" يذكّره بسجائر "لاكي سترايك". وهكذا فإن شاوول يعطي الفرصة لغير المدخنين من قارئيه، فرصة تجريب السيجارة والشعور بدفق النيكوتين اللذيذ، من دون إشعالها أو تدخينها.


ليس مفاجئا أن نقرأ حوارا مع الشاعر (في جرائد لبنانية ومصرية) يتكلّم فيه عن السيجارة بشغف ومحبة خالصتين كتلك التي ظهرت في كتابه.


"كان أمي وأبي مدخنين شرهين ولكن أمي التي تمكنّ منها السرطان اللعين، لم يعد بمقدورها التدخين قبل موتها بساعات قليلة طلبت منّي سيجارة وأعطيتها إياها رغما عن احتجاجات إخوتي الكُثر، أتذكر أنها وضعتها في فمها ولكن لم تدخّنها أو بالأحرى لم تستطع حتى تدخينها، أغمضت عينها مبتسمة، وودّعت العالم بسيجارة بين يديها.


هذا الكتاب ليس سيرة السيجارة وحسب، إنه عن الحرب والمجتمع كذلك. المقاهى تشبه جالسيها فرائحة مقهى المثقفين هى رائحة سجائرهم التى تشبه بدورها لون الكراسي، ماتت أمي بسبب السيجارة، أبي، أختاي الاثنتين وأخي وكثير من الأصدقاء غيّبهم الدخان.


في جنازاتهم كنت أمشي وسيجارة في فمي، أتلقّى التعازي فيهم ولا تزال سيجارتي في مكانها، كل شيء له ثمن: المتعة، الأكل، العلاقات، الكحول، الزواج، الكتابة واللا كتابة، كل شيء. لا شيء مجاني.  


يبدو أنه يجب عليّ الاحتفال باليوبيل الذهبى لعلاقتنا، فالسيجارة كانت معي في كل أوقاتي الصعبة والمبهجة: في مراهقتي، في الحب والفشل فيه، في الاخفاقات الكبيرة والنجاحات الصغيرة، في فترة خطفي أثناء الحرب، في كل تلك الأوقات كانت رفيقة أصيلة، شاهدة صامتة على حياتي التي مرّت ولم يعرفني أحد مثلما عرفتني السيجارة."