التوقيت السبت، 23 نوفمبر 2024
التوقيت 02:57 ص , بتوقيت القاهرة

سيئات السمعة قد يسبقن الزمن!

في عام 1965 نشر نجيب محفوظ مجموعة قصصية بعنوان "بيت سيئ السمعة". وفي القصة القصيرة التي مُنحت المجموعةُ اسمُها يستعرض أستاذ الرواية العربية حياة رجل تقليدي يتسم بالمحافظة وقلة الثقة بالنفس. تدور القصة حول لقاء غير مرتب بين البطل الذي قارب سن المعاش والذي يعمل مديرًا للمستخدمين بإحدى المصالح الحكومية، وبين أرملة في الخمسين تأتي لمكتبه لإنهاء بعض الأوراق الخاصة بمعاش زوجها. يتعرف الرجل في الأرملة على حبيبة شبابه الأول والتي لم يُقدر له الاقتران بها. يتعامل معها باحترام وود وتنصرف الأرملةُ على وعد من حبيبها القديم بأن يبذل جهده لإنهاء مصلحتها وتتركه فريسةً لذكرياته. 


يتذكر الرجل كيف داعب الحب قلبه للمرة الأولى تجاه تلك الفتاة العذبة، والذي كان انتماؤها لبيت ساءت سمعته في الحي مانعًا له من إسعاد قلبه بالزواج منها. ويتذكر أيضًا رجل ستينيات القرن العشرين الأسباب التي أدت إلى أن يوصُم بيتُ حبيبته بالعار في العشرينيات من ذات القرن، والتي حتمت على أهل الحي أن يقرنوا ذكر هذا البيت بالرذيلة. وقد تلخصت تلك الأسباب كما يتذكرها بطلنا في أن أم حبيبته كانت من أوائل النساء اللائي خلعن البرقع وسرن في الطريق سافرات. كذلك لم يتحمل أهلُ الحي، والذي كان بطلنا بالطبع واحدا منهم، حقيقة أن سكان البيت سيئ السمعة كانوا يستقبلون أقاربهم من الجنسين في الأعياد والمناسبات العامة. ولم يجد الجيران تفسيرًا لهذا السلوك الذي يبيح الاختلاط بين الجنسين، غير أن صاحب البيت وزوجته (والدا حبيبة البطل) يديران منزلهما لأعمال الدعارة ويقدما بناتهما للزبائن. وقد تأكدت هذه القناعة نتاج سلوك آخر لا يقل شذوذًا تمثل في أن رب الأسرة كان لا يجد غضاضةً في اصطحاب زوجته وأولاده عند التنزه في الأماكن العامة.


يتذكر البطل أيضًا اللقاء الوحيد الذي جمعه بحبيبته بعد فاصل دام أسابيع من تبادل النظرات الحانية والابتسامات المسروقة. ويتذكر كيف اقترحت حبيبته أن يمضيا إلى حديقة الحيوان، بينما هو كان حريصًا على الذهاب بها إلى مكان لا يراهما فيه أحد. ويتذكر كيف أخبرته حبيبته بأنها قد صارحت أمها بذهابها للقائه، بينما أخفى هو هذا "السر" عن الجميع. وعندما أبدى هو ترددًا وتلعثمًا عندما طالبته بالتقدم لخطبتها، لم تتردد هي في مصارحته بأنها كانت تتوقع ذلك. فقد أكدت لها أمها عندما علمت بذهابها للقاء هذا الشاب أنه لن يجرؤ على تحدي الأفكار الشائعة. وتنتهي قصة الحب بانتصار السمعة السيئة على الشجاعة.


ويتأمل الرجل الموشك على التقاعد كيف كان يشارك كل أهل الحي عجبهم لزواج كل فتيات البيت سيئ السمعة بأزواج يفوقون كل شباب الحي تعليمًا ومكانة، دون أن يجدوا تفسيرًا لهذا الحظ الرائع الذي يتحدى المنطق. وفي النهاية يتذكر رئيس المستخدمين الكهل أن عليه القيام للاستعداد لسهرة مع أسرته دعاهم له زميل إحدى بناته في العمل، ويبتسم الرجل لحقيقة أنه قبل مع أسرته دعوة هذا الزميل رغم أن لا علاقة رسمية تربطه بابنته بعد.


"بيت سيىء السمعة" قصة قصيرة قليلة الأحداث يلخص فيها نجيب محفوظ بعبقريته الصافية أحد جوانب مأساة العقل التقليدي. فالعقل التقليدي بجنوحه المستمر للمحافظة على ما يعرف ومعاداة كل ما يجهل يضع نفسه تحت عجلات قطار الزمن. تظهر لنا القصة كذلك أن العقل التقليدي بعجزه عن رؤية قوى التطور وهي تفعل فعلها في المجتمع، قد يحرم أصحابه من سعادة هي حقٌ مباح لهم. ورغم أن السلوكيات الاجتماعية قد تغيرت كثيرًا عن الزمن الذي كتبت فيه القصة (الستينيات) أو الزمن الذي تدور فيه أحداثها الجوهرية (العشرينيات) إلا أن العقل التقليدي لا زال يتحصن بذات الخنادق في مواجهة التطور. لا زال التقليديون يصفون المغايرين بسوء السلوك، ولا زالوا يجدون في العيش وفقًا لما يجنبهم الصدام مع قوى التغيير تعويضًا عن البقاء في مؤخرة الصفوف. فرغم كل ما مر من تجارب ثريةً على مصر في نصف القرن الأخير لازالت السمعة السيئة تلتصق بالأفكار الجديدة. حتى اليوم لازال هناك من يقرن العلمانية بالإلحاد والديمقراطية بالتسيب والليبرالية بالانحلال. العجيب أن هذه الاتهامات لازالت تُوجه بكل ثقة بينما تكتسب العلمانية والليبرالية والديمقراطية كل يوم أرضًا جديدة. كل ما هنالك أن التقليديين عاجزون كبطل القصة عن رصد التطور. المضحك أن لازال هناك من يقيمون النساء وفقاً لمعايير أهل الحي في القصة السابقة، في زمننا الذي يصعب فيه على أي فرد إدعاء الفضيلة الكاذبة أو كتمان الخطيئة، ولازال هناك من يظنون أن بإمكانهم مقاومة التطور بنفس الخطاب القديم في الدين أو السياسة.


تبدو الأفكار الجديدة دوماً سابقةً لزمنها، لكنها في الحقيقة ليست كذلك. كل الأفكار التي دفعت المجتمعات للأمام في كل العصور جاءت في موعدها تمامًا ونتاجًا حتميًا للزمن، وكلها عانت في البداية من سوء السمعة. الزمن آلة بناء وسحق، وفرزٍ أيضًا، ولذلك كان تأثير الزمن دائمًا ـ وليس المكان ـ هو البطل الرئيسي في أدب نجيب محفوظ كما ألمح هو أكثر من مرة في حوارات عابرة.