أنثى روبوت وقليل من الذكاء الاصطناعي المرعب في Ex Machina
هل يمكن للآلات أن تفكر؟
بهذا السؤال البسيط المباشر افتتح عالم الرياضيات البريطاني المعروف آلان تورنج (1912 – 1954)، الذي استمتعنا مؤخرا بفيلم The Imitation Game عن قصة حياته، ورقته البحثية (آلات الكمبيوتر والذكاء) التي كتبها عام 1950 وقدم فيها ما يعرف حاليا بـ "اختبار تورنج".
ولأن من الصعب تحديد ماهية التفكير نفسها، فقد انتقل العالم العبقري لسؤال آخر: هل يمكن للآلة يوما ما مستقبلا أن تُحاكي السلوك البشري، بشكل نعجز معه عن معرفة أنها آلة؟.. على ضوء هذه الفرضية، أصبح "اختبار تورينج" عبارة عن سلسلة من الأسئلة يتم توجيهها للكمبيوتر، واستقبال الإجابات في شكل نصوص، يقرأها بشر للتحليل. إذا اقتنع نسبة منهم بكونها إجابات بشرية، فقد نجح الكمبيوتر إذًا في تجاوز الاختبار، وأصبح يضاهي الإنسان. وهذا علامة على قدر ما من الذكاء.
الاختبار الشهير امتزج لاحقا بـ فلسفة الذكاء الاصطناعي، التي تتضمن نفس السؤال تقريبًا بصيغ عكسية تخصنا كبشر: "هل الذكاء الآلي والذكاء البشري وجهان لعملة واحدة؟.. هل يمكن اعتبار العقل البشري بالأساس مجرد كمبيوتر؟.. بالإضافة إلى مقارنات أكثر تعقيدا بين الإنسان والآلة، تتعلق بعناصر يصعب تعريفها وقياسها بشكل مادي، مثل (الأخلاقيات - الوعي - المشاعر).
الخامات السابقة كانت منبعًا لعشرات الأعمال في السينما، خصوصًا أن هناك تأثيرًا نفسيًا ما مقلقًا، مع وجود آلة ذكية على الشاشة. الإحساس الإنساني غير المريح، أن هناك شيئا غير إنساني ينافسنا وينازعنا في منطقة تفوقنا. ستجد هذا في كلاسيكيات ابتداء من Metropolis 1927 إلى ثلاثية The Matrix الشهيرة (1999 - 2003)، مرورا بعلامات أخرى مثل 2001: A Space Odyssey - Blade Runner - The Terminator - A.I. Artificial Intelligence.
في Ex Machina وهو اسم مقتبس من مصطلح لاتيني موجود في المآسي الإغريقية Deus Ex-Machina بمعنى (آلهة من آلات) على المستوى اللغوي، ودلالة تشير الى (الآلهة التي تنقذ الموقف في اللحظات الأخيرة)، يقتبس ألكس جارلاند فلسفة الذكاء الاصطناعي، كمحور أساسي لفيلمه الأول كمخرج. بعد نجاح طويل كأديب في شبابه، وسيناريست في السنوات الأخيرة. قائمة أعماله تضم 28 Days Later - Sunshine مع المخرج داني بويل.
كاليب (دومنال جليسون) مبرمج شاب ينال فرصة العمر، عندما يختاره رئيسه الملياردير غريب الأطوار نيثان (أوسكار إيزاك) صاحب شركة الاتصالات والإنترنت العملاقة، لقضاء أسبوع في منزله، للقيام باختبار تورينج على آفا (أليسيا فيكاندير). أول روبوت بذكاء اصطناعي كامل حقيقي، في جسم وهيئة أنثى.
كاليب يعرف من البداية أنها روبوت، لكن عليه أن يحدد مع نهاية الأسبوع، هل تفاعل معها كأنثى بشرية كاملة، أم أن الذكاء الاصطناعي في آفا لم ينتج بعد ما يرقى للبشر؟.. وهو الاختبار الذي سنشاركه فيه كمشاهدين، ولن يسير على ما يرام. لم تعد المسألة هنا تتعلق فقط بقياس درجة تشابه الروبوت مع البشر في إجابة أسئلة كما فكر تورنج، بل امتدت للجانب النفسي والجنسي نفسه. الجانب الذي يحتاج إلى تفاعل مباشر.
آفا محور الفيلم، ولهذا نالت بالفعل اهتماما خاصا من جارلاند. بداية من أداء وصوت أليسيا فيكاندير، الذي يجمع بالفعل بين الجانب البشري الأنثوي، والجانب الآلي. وانتهاء بالتصميم الجيد، الذي يفرض على المُشاهد تلقائيًا التركيز على تعبيرات الوجه البشرية. ويذكره أيضًا طوال الوقت بأصلها كروبوت، بفضل استخدام لون وتصميم مختلف لباقي الرأس والجسم.
في المقابل يبدو الملياردير نيثان سلوكا، كامتداد لعباقرة شركات التكنولوجيا من نوعية ستيف جوبز. الشخص اللامبالي المهووس بعمله. المعادل المعاصر لشخصية دكتور فرانكشتاين في الرواية الشهيرة. سيصعب على البعض في البداية ملاحظة أوسكار إيزاك في الدور، بسبب الذقن وتغيير الهيئة. لكنّه هنا يقدم من جديد أداء ممتازا آخر، يعادل ما قدمه مؤخرا منذ شهور بسيطة في A Most Violent Year.
اختار جارلاند شخصيات معدودة، ومنزلا معزولا شبه مدفون كموقع رئيسي لأغلب الأحداث. وهو ما يضفي إحساسًا خانقًا مناسبًا بخصوص المكان. ويسمح أيضًا بتوظيف الميزانية كلها لخدمة موقع تصوير ثابت. وهو ما أنتج بالفعل تصميمًا دقيقًا، يعكس الطابع الصناعي المزيف المظلم المعدوم الروح للمنزل، رغم الفخامة.
وللأسف أراد تأكيد هذا أكثر وأكثر، بتصوير العديد من اللقطات من خلف حاجز زجاجي، أو عبر فتحات في قطع الأثاث، بشكل مفرط ومصطنع دمر المعنى المراد. وهي أخطاء يقع فيها الكثيرون في تجاربهم الإخراجية الأولى، بسبب الإصرار الاستعراضي على صناعة كل لقطة بطريقة تحتوي على رسالة ما مكثفة.
هذه العيوب البسيطة في الإخراج، يعادلها سيناريو وحوار ثري يليق باسم جارلاند. نعم نقطة التفاعل العاطفي البشري مع آلة، ليست جديدة بشكل كامل في أفلام الخيال العلمي. وقد شاهدناها مؤخرا في فيلم مهم جدا بعنوان Her للمخرج سبايك جونز. وستجدها باستمرار، لدرجة تجعلها متوفرة حاليا في فيلم معروض ناقشناه سابقا بعنوان Chappie.
لكن على العكس من أغلب الأعمال، التي تصل لهذه المرحلة بفضل تدشين الآلة كإنسان، أو البدء أصلا بكيان بشري للشخصية كما في فيلم Transcendence، يحافظ Ex Machina على هوية بطلته كروبوت، ويصدمنا بسؤال منطقي: لماذا نعتبر مولد طفل بشري خير، وننظر إلى خلق روبوت بذكاء اصطناعي كشر؟
السؤال مرتبط بقبول فكرة الـ Post human أو حقبة ما بعد الإنسان. وتتلخص هذه الفكرة في نظرة غير تعظيمية للإنسان، تصنفه كمجرد كائن آخر يسيطر على الكوكب لحقبة من الزمن، قبل أن ينتهي دوره الريادي في مرحلة ما، لتصبح السيطرة متروكة لكائنات أو آلات أخرى، أكثر قدرة منه على السيطرة والتطور مستقبلا.
إذا أصبح البشر عائقا في طريق هذه الخطوة، فمن المنطقي إذًا أن يزيح الكيان الأقوى العائق. قديما في فيلم كوبريك 2001: A Space Odyssey كان التعاطف مع البطل البشري ضد الكمبيوتر "هال". نفس الشىء في ثلاثية The Matrix للأخوين واتشووسكي. الآن تبدو آفا بذرة مستقبل أكثر جودة من البشر، وأكثر جدارة بالتعاطف والتشجيع. ولعلك لاحظت تشابه Ava مع Eve (حواء بالإنجليزية).
"يوما ما ستنظر إلينا آلات الذكاء الصناعي بنفس الشكل الذي ننظر به كبشر الآن إلى بقايا الحفريات المنقرضة".
هذه الجملة ستسمعها في الفيلم، وإذا كنت تعتقد أن الجملة وآفا مستقبل وهمي ينتمي إلى الخيال العلمي، فدعني أصدمك أن عام 2014 شهد بالفعل نجاح أول كمبيوتر في اختبار تورنج!.. آفا على مشارف الظهور. إن لم تكن موجودة بالفعل حاليا في مركز أبحاث ما.
باختصار:
ألكس جارلاند يقدم في أول أعماله كمخرج، دراما جيدة من الخيال العلمي، تطرح أسئلة أكثر نضجًا من المعتاد عن الذكاء الاصطناعي ومستقبل البشرية. مع أداء جيد جدا من أوسكار إيزاك وأليسيا فيكاندير.