التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 01:58 م , بتوقيت القاهرة

مناظرة المناظر في المناظير والمنظرة

ولأن المناظرات هي الرأي والرأي الآخر وكل رأي يجانبه الصواب والخطأ، فإننا لا نجيد المناظرات في الدول العربية ولا في مصر، تسيطر علينا العصبيات القبلية منذ القدم، ولأننا شعوب كانت تحت حكم أنظمة ديكتاتورية منذ سنين وحديثي العهد بالديمقراطية التي شابها الفوضى العارمة تحت وطأة الطائفية البغيضة، فلا يوجد لدينا ثقافة احترام الرأي الآخر، بل رأيي هو الصواب وما عداه هو الخطأ، يا عزيزي وهل يوجد يقين في شيء سوى في وجود الله والموت و ما عداهما كل شيء خلافيّ ونسبيّ ومحتمل وما يقيني إلا بالله؟ لهذا لم نُجِد المناظرات بعد، سواء السياسية أو الدينية أو حتى الاجتماعية منها، وإن كان لنا باع طويل في المناظرات الأدبية واللغوية قديمًا.


المناظرة علم وفن وهي حوار بين شخصين أو فريقين يسعى كل منهما إلى إعلاء وجهة نظره حول موضوع معين والدفاع عنها بشتى الوسائل العلمية والمنطقية واستخدام الأدلة والبراهين على تنوعها، محاولاً تفنيد رأي الطرف الآخر وبيان الحجج الداعية للمحافظة عليها أو عدم قبولها.


أهمية المناظرات لا تكمُن في الجدال وتعميق الخلاف وإهانة بعضنا البعض، ولكن لصقل مواهب المتعلم وتعويده على إتقان فنون القول والجدل الرامي إلى بلورة الرأي في إطار احترام الرأي الآخر ولو كان مخالفًا، المناظرات نوعان إما الواقعية التي تصور الواقع أو المتخيلة مثل المناظرة بين السيف والقلم .


موضوع المناظرة نفسه ينقسم إلى قسمين :


1- الأدلة: وهي أهم مادة في عملية المناظرة وهي إما:
ا- نقلي: ويتعلق بالاقتباس والاستشهاد من الكتاب والسنة وأقوال العلماء والمفكرين.
ب- عقلي: ويكون من المنطق والحجة ويلخصه قولهم: " إن كنت ناقلاً فالصحة وإن كنت مدعيًا فالدليل".


2- التعميم: إذ ينبغي التحفظ على بناء التعميم كإطلاق دون قيد أو تعميم دون تخصيص وتجنب كذلك ألفاظ الجزم والقطع في القضايا الخلافية ذات الأبعاد الاجتماعية والثقافية.


قبل إقامة المناظرات على الأقل يجب أن تتوافر فيها شروط ثلاثة أساسية :
1- أن يُجمع بين خصمين متضادين.
2- أن يأتي كل خصم في نصرته لنفسه بأدلة ترفع شأنه وتُعلي مقامه فوق خصمه .
3- أن تُصاغ المعاني والمراجعات صوغًا لطيفًا.


إن كنا حديثي العهد بالمناظرات السياسية والدينية والاجتماعية، فلنا تاريخ رائع في المناظرات الأدبية واللغوية والنحْوية، والأجدر بنا دراسة المناظرات جيدًا شروطها وقواعدها قبل الدخول فيها، خاصة في المواضيع الشائكة والحساسة كالدين والسياسة، وأن نكون ممن يتقبلون الرأي الآخر حقيقةً لا تمثيلاً، فوجود المناظرات الفترات المقبلة سينمي فكرة قبول رأي الآخر بشكل جيد لدى مجتمع يحبو إلى الديمقراطية ويسعى لركب التطور الحضاري والمواطنة و قبول الآخر، وستنتقل المناظرات شيئًا فشيئا من مجرد سباب وصوت عال وأنا الصواب ومن بعدي الطوفان إلى مناظرات فعّالة تُشجع المجتمع على إذابة الجليد والخلافات بينهم والقدرة على المناقشة دون عصبيات واحتقار للآراء المخالفة.


قال أحد الفلاسفة يومًا لأحد تلاميذه: " تكلم حتى أراك"، وقيل أيضًا: "المرء مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم ظهر"، أو كما يقول المثل: "لسانك حصانك إن صنته صانك"، فاللسان هو في الواقع بمثابة البيان الأول للإعلام عن صاحبه وكينونته وأفكاره، فالمناظرات جائزة في شتى المجالات وهي في حقيقتها سعي لكشف الحقائق وإن كانت أحيانًا تستخدم لتضليل الناس، لكن بجانب محتوى المناظرات الرائع من الحقائق والحقائق المضادة تحتوي أيضًا على كم لا يصدق من المتعة والطرافة والإنارات الكاشفة على الحقيقة المجردة.


رفقًا بأنفسنا فالمناظرات إن انتهت بفوز فريق ضد آخر أو خسارة الفريقين أو فوز وتعادل الفريقين، فنحن المتابعون مستفيدون في كل الأحوال في إعمال العقل، ولا تنسوا البدايات دائمًا ضعيفة علنا نصل للقوة المنشودة يومًا، فاختلافنا رحمة ولو شاء لخلقنا جميعًا سُواء.


ولأننا هذه الأيام في مرحلة تبديل الفصول، فتجد الفصول الأربعة في يومٍ واحد لننظر إلى مناظرة أدبية شهيرة بين فصول العام لابن حبيب الحلبي:


قال الربيع: أنا شاب الزمان وروح الحيوان وإنسان عين الإنسان، أنا حياة النفوس وزينة عروس الغروس ونزهة الأبصار و منطق الأطيار عُرف أوقاتي ناسم وأيامي أعياد ومواسم.


وقال الصيف: أنا الخل الموافق والصديق الصادق والطبيب الحاذق أجتهد في مصلحة الأحباب، وأرفع عنهم كلفة حمل الثياب، وأخفف أثقالهم، بي تتضح الجادة وتنضج من الفواكه المادة، ويزهو البُسَر والرطب وينصلح مزاج العنب.


وقال الخريف: أنا سائق الغيوم، وكاسر جيش الغموم، وهازم أحزاب السموم، وحاوي نجائب السحاتب، وحاسر نقاب المناقب.


وقال الشتاء: أنا شيخ الجماعة ورب البضاعة، أجمع شمل الأصحاب، وأسدل عليهم الحجاب، وأتحفهم بالطعام والشراب .