التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 04:45 م , بتوقيت القاهرة

متلازمة صيصة

الاسم الدرامي للسيدة صيصة أبو دوح النمر، يضعنا على موعد مع شخصية متفردة غير اعتيادية، بدءًا من اختيار اسمها الثلاثي، الذي هو ولا شك قد أوجدته الأقدار خِصيصا ليستقبلها، وحتى هيئتها المتفردة، مرورا بمسيرة كدحها العظيم، تضعنا جميعها أمام حالة تجبر المتأمل على التوقف، لاستلهام العبر والاستهانة بأزماته البسيطة إذا ما قورنت بتجربة "صيصة".


السيدة القادمة من أغوار الصعيد - مركز البياضية، حتى استقرت أمام مدينة الإنتاج الإعلامي، والفائزة عن استحقاق أسطوري، بلقب الأم المثالية عن محافظة الأقصر لهذا العام، والتي استقبلها السيد رئيس الجمهورية تقديرا لما قامت به عبر 43 عاما من الشقاء والاجتهاد والعمل المثابر في ظروف استثنائية - يعبر عما سيقابل من يتتبع قصتها الدرامية من أحداث ومفارق حياتية، تضعها في مصاف الأولياء والقديسين، وما يكون بصفات القديسين أكثر مما حملته على عاتقها من مسؤولية دون تخل أو تهرُّب، أو أن تضع احتياجاتها الإنسانية في منازعة مع مسؤوليتها؟! هي نقطة ضوء من أساطير الماضي، بعثت حية بين ظهرانينا.


توفي زوجها أثناء حملها، وعلى مدار ثلاثة وأربعين عاما، خلعت هويتها الجنسية عن روحها، وقطعت علاقتها بالأنوثة إلى غير رجعة، وارتدت ملابس الرجال لتنفق على تربية ابنتها، واعتبرت هذه المهمة هي رسالتها المكلفة بها من قِبَل السماء، وقبلت أداءها عن طيبِ خاطر.


في مجتمع تصدرت واجهته وأفكاره وثقافته في النصف قرن الأخير - الدعوة الدينية بمختلف مسمياتها ورجالها - كان من المفترض أن يتم تكريم ومساندة هذه المرأة اجتماعيا، قبل تكريم الدولة لها بكثير، هي تعلم بفطرتها أن بقاءها كأنثى يعنى أنها ستقع في كثير من المتاعب والمطبات، التي ستعوقها عن أداء رسالتها وستُفشِل مسعاها فى الوصول بطفلتها إلى حيث الأمان، وربما تنتهي حياة ابنتها بما لا تأمل أن يصير.


مجتمع تكريم المرأة كأكليشيه ديني/ سياسي، قَبِل ومرّر أن تقتل امرأة طبيعتها، تقصر شعرها للأبد، وتعيش كرجل، كي تنال فرصة ضعيفة لاستكمال حياتها وكسب الرزق ورعاية وليدتها، مجتمع فيما يبدو أن الأقارب قد تخلوا عن السيدة وطفلتها بشكل تام، فرفعوا أياديهم عن المساعدة، حتى اخشن صوتها لكثرة مخالطة الرجال واعتياد جلساتهم، وصارت ملابس النساء تخنقها إذا ما ارتدتها كما صرحت فى لقاء تليفزيوني.



صيصة بحسب ما وصلنا من أحاديثها، هي مثال للخوف المتجسد حيا لقرابة نصف قرن، الترقب الذي لا يفتر حذرا من انفلات الزمام، أو الانكشاف وانهيار المعبد الذي بنته على مدار عقود.. حتى بعد أن فقدت ملامح أنوثتها بحكم الزمن، ظل الخوف وربما الاعتياد والألفة أيضا جميعهم متمكنين منها، فرفضت فكرة العودة إلى جنسها، ومعها الحق، فالإنسان الذي عاش أكثر من ثلثي عمره مغلفًا بتكوين حمى به كيانه، يصعب عليه أن يتخلص من هذا التكوين ويستبدله بغيره فى خريف عمره، حتى لو كان بعودته لهويته الأصلية.


فهيئة الرجال هي واحة الأمان لها.


حتى أنه في واقع يميل لاستغلال الحدث، أكثر من الاحتفاء بأبطال الحدث، مر تكريم السيدة على دعاة تطبيق الشريعة وتكريم المرأة بالجلوس فى بيتها- دون إشارة أو إشادة، فى حين تم تضخيم حدث تكريم من نادٍ اجتماعي لإحدى عضواته - فيفي عبده - كأم مثالية باختيار من بين عضوات النادي لأكثرهن عطاءً نحو الأطفال، ونقله أتباع شرعية الإرهاب بصيغ المبالغة والتشهير والتلفيق، باعتباره تكريما من الدولة لراقصة، لترويج ما يرون أنه يشوه خصومهم.. فسخروا من الأمومة حين كانت لراقصة بناد اجتماعي، وتغاضوا عنها حين كانت لماسحة أحذية في عمق الصعيد!


ولكون صيصة فى النهاية هى ابنة هذا المجتمع، فلم تكن تمر حكايتها الأسطورية المتفردة، دون عبرة، فإن ابنتها الشابة التي تزوجت في سن السادسة عشرة، وأنجبت خمسة أطفال ومرض زوجها، وصار قعيدا عاجزا عن العمل، فأصبح على كاهل "صيصة" سبعة أشخاص بدلا من ابنة واحدة.


التجربة المأسوية لصيصة ما زالت مستمرة، والعبرة التي يمكن استخلاصها من تجربتها، أن لا أحد يعتبر أو تعنيه العِبرة.. فابنتها وزوجها على سوء الظروف التي اختبرتها في حياتها وصهرتها مع والدتها في واقع قاس، قد قررا إنجاب خمسة أطفال، دون خوف من عواقب ذلك على والدتها أو عليها أو على الصغار الخمس.


تبادل الإشكاليات المعقدة بين أفراد المجتمع والمجتمع ككل لا تنتهي، وتأخذ دورة حياة جديدة بين صيصة وأحفادها، لا أدعي علما بمنطلقات اجتماعية أو اعتقادية لابنة "صيصة" تجعلها تنجب خمسة أفراد جدد، لا أقول تأتي بهم لمجتمع يعاني بقسوة من تزاحم أبنائه، وإنما أقول بل رحمة بأنفسهم كأسرة صغيرة ذاقت مرار المعاناة وقسوة الحاجة لمجتمع يلتفت قليلا للضعفاء.


أسرة كان من المنطقي والطبيعي أن تتجنب قسوة الحياة التي ألمت بأسرة من فردين، ولم تتغير معطياتها لتمنح المزيد لأسرة أصبحت تتشكل من سبعة أفراد!


يعتبر مثال صيصة وابنتها، نموذجا مقاربا لنمطنا الاجتماعي، من حيث عدم ربط المقدمات بالنتائج، وعدم الاعتبار بالمتشابهات والحوادث المماثلة، والذاكرة القصيرة للغاية، والتي سرعان ما تمحي منها التجارب العميقة، والاستدانة دون رصيد، ارتكانا على عشم مبالغ فيه لعطاء سيأتي ذات يوم مهما بعُد، وتحميل عبء سداد  الدين على المستقبل البعيد.


تجربة التحدي الإنساني العظيمة للسيدة صيصة النمر - جديرة بالفخر، ولكـن الارتكان إلى تجربة واستدعاء الفخر بها، والوقوف عندها كنهاية مطاف، يُختتم بمكافأة المحافظ لها بمنحها "كُشك" يكفيها السؤال والعوز - شيء، والاستفادة الحقيقية من قصتها الملهمة شيء آخر.


فتجربة "صيصة" بنهايتها الحالية هي قصة نضال من أجل البقاء، وليس من أجل تحسين المعاش، أو الانتقال لوضع أفضل لها ولذويها، وهو جهد مشكور لها يضعها في مصاف العظماء، لكن علينا أن نتذكر أن المسعى الحق يجب أن يتركز في عدم الوصول لتكرار تجربة مؤلمة، وجعل حياة أحفادها أفضل، وليس أن نطلب منهم أن يكونوا تكرارا لنموذجها في المستقبل، وهو ما يصعب أن يكون في أسرة أنجبت خمسة في مثل هذه الظروف.


وتجربة النضال من أجل البقاء التي خاضتها صيصة، ملحق بها إنجاب ابنتها لخمسة أطفال فى ظروف عسيرة، تعد مثالا مصغرا لتجربة المجتمع المصري، الذي يخلق معاناة أفراده بفرض أفكار إقصائية أو قيم سلبية متوارثة عليهم، تخلق هي بدورها ظروفا معيشية سيئة، ثم يعود ليقاوم قسوة ظروفه بتضخم سكاني لا يتوقف!