التوقيت الثلاثاء، 26 نوفمبر 2024
التوقيت 04:27 ص , بتوقيت القاهرة

اختلاف المعايير

تتباين المعايير- باختلاف أنواعها- من شخص إلى آخر مما يؤدي إلى التصادم أحيانا. أول مرة لاحظت فيها أثر هذا التباين بوضوح كانت منذ عدة سنوات، حينما تنومت لبضعة أيام في المستشفى مع ابنتي الكبرى "هيا". تعاملت في تلك الفترة مع ثلاث جنسيات مختلفة من الممرضات: سعوديات وسريلانكيات وفلبينيات.


كانت كفاءة الممرضات متساوية تقريبًا لأن المستشفى جيد وتمريضه ممتاز. أي أن أيًا من الممرضات لم ترتكب خطأً ولم تُقصر في عملها، ولكن الاختلاف كان واضحًا في التعامل ودرجة الرفاهية المُقدمة. الممرضة السريلانكية تُقدم لك الخدمة ولكنّها لا تراعي نفسيتك، في اللهجة العامية نقول "ما تدلع". الممرضة الفلبينية لطيفة و "تدلع". الممرضات السعوديات كان عددهم قليلا في ذلك الوقت فلم أتمكن من الحكم عليهم، لذلك سنخرجهم من المنافسة ونُقارن الممرضة السريلانكية بالفلبينية.


ملاحظتي الشخصية هي: أن الممرضة السريلانكية  «ما تدلع» بينما الممرضة الفلبينية «تدلع».. السؤال المنبثق من الملاحظة هو: لماذا الممرضة السريلانكية «ما تدلع» بينما الممرضة الفلبينية «تدلع»؟


اعتمادا على الأرقام فإنّ الممرضة السريلانكية «المفروض» تكون أفضل من الممرضة الفلبينية:


- سيرلانكا ترتيبها بين الدول في مؤشر التنمية البشرية «مؤشر رفاهية الشعوب» هو الـ 73 «تنمية عالية»، بينما الفلبين في المرتبة الـ 117 «تنمية متوسطة».


-  معدل الولادات في سيرلانكا 2.13 طفل للأم الواحدة بينما المعدل في الفلبين 3.06. أي أن الطفل في سيرلانكا المفروض يلاقي اهتماما أكبر من عائلته والمجتمع من الطفل في الفلبين.


-  الكثافة السكانية في سيرلانكا 323 كم مربع «ترتيبها الـ 40» والفلبين 336  كم مربع «ترتيبها الـ 43 ».


-  هل الموضوع له علاقة بالعراقة؟ سيرلانكا أكثر عراقة من الفلبين، تاريخها يمتد إلى 3000 سنة.


- سيرلانكا كانت مستعمرة بريطانية والفلبين كانت مستعمرة إسبانية ثم أمريكية.


-  هل الطبيعة الجغرافية هي السر؟ سيرلانكا جزيرة والفلبين أيضًا جزيرة.


- هل الاختلاف بسبب الدين؟ ربما... سيرلانكا 70% بوذية والباقي مسلمين وهندوس ومسيحين والفلبين 90% مسيحين والباقي مسلمين وديانات أخرى.


- هل معاهد التمريض في الفلبين تركز على هذا الجانب بينما في سيرلانكا لا يركزون عليه؟ إذا كانت الإجابة نعم، نتساءل لماذا المعاهد في الفلبين تركز عليه، بينما في سيرلانكا يتجاهلونه؟ يعني أن التساؤل انتقل من منطقة إلى أخرى ولكنّه لا يزال قائمًا.


- هل الأم الفلبينية أكثر حنانًا من الأم السريلانكية؟ إذا كانت الإجابة نعم، لماذا الأم الفلبينية أكثر حنانا من الأم السريلانكية؟


- هل بيئة العمل ونوعية المرضى هي السبب؟ لا أظن، الجنسيتان يعملون في نفس المستشفى ويتعرضون لنفس الضغوط ولنفس نوعية المرضى.
 
طريقة تعامل الممرضة السريلانكية وكأنها تقول «وكمان حتدلعي! أحمدي ربك أنك عايشة ولاقية علاج!». يعني حين تهم بضربك إبرة آخر شيء تفكر فيه هل أنت خائف أو مكسوف أم لا! مراعاة مشاعرك بالنسبة لها رفاهية ليس لها داع. الممرضة الفلبينية ستضربك الإبرة وهي تقول "دونت وري هبيبي مافيه أوجع كلوز يور ايز".


كمحاولة تحليل أولية أتوقع أن الفرق يكمن في تباين المعايير بين الجنسيتين. طبيب معاييره منخفضة لو جاءه مريض بجرح عميق سينظفه ويخيطه كيفما اتفق، بينما لو كانت معاييره مرتفعة سيراعي أن لا يترك الخياط أثرًا في المستقبل على جلد المصاب.


في البحث العلمي بعض الجامعات تقبل أن تنشر في أي مؤتمر بينما جامعات أخرى لا تقبل إلا مؤتمرات قوية. شركات الاتصالات الرائدة تسبق في تجريب التقنيات الجديدة واستخدامها وربما تطويرها، أما شركات اتصالات الأخرى فيقتصر دورها على مراقبة الشركات الرائدة لتقليدها، معايير مرتفعة ومعايير منخفضة. ولدين بمعايير صحية متباينة، في جيب كل واحد منهم عشرة ريالات فقط وخرجوا للعشاء، الولد بمعيار مرتفع سيشتري بالعشرة ريالات أكل قليل ولكنّه صحي (ربما كف موز) والولد بمعيار منخفض سيشتري وجبة سريعة مليئة بالدهون المشبعة وبطاطس وكولا إكس لارج.


نحن في الخليج مرفهين نسبيًا ونهتم باللبس والمظهر الخارجي «معيارنا في جانب المظهر مرتفع»، ولكن معايير الاهتمام بالصحة الذهنية والنفسية والبدنية والبيئية منخفضة عندنا. بينما في بريطانيا مثلا قابلت أشخاص كُثر ميسورين ماديا وبالرغم من ذلك ألاحظ أن بعض أسنانهم مفقود «طايحة»، ولم يقوموا بزراعة أسنان بديلة «أحيانا حتى يكون السن الأمامي هو المفقود ويؤثر في الشكل بوضوح ومع ذلك لا يزرعون مكانه». معيارهم في المظهر متوسط ولكن معاييرهم للحفاظ على الصحة الذهنية والنفسية والبدنية والبيئية مرتفعة.


إذا تعاملت مع شخص في مجال معين وكل منكم يحمل معايير مختلفة، فإنكم في الغالب ستتصادمون. لو اشتركت مثلا مع طالب آخر في كتابة بحث، أنت متفوق وترغب في امتياز مع مرتبة الشرف وهو يريد فقط أن ينجح! ستنتهون إما بخناقة أو أنك ستقوم بكل العمل بنفسك لأنك لن تقبل مساهمته الغير متقنة. لذلك ندرس بتمعن معايير من ننوي مصادقته أو مشاركته أو الاقتران به ونعتبرها في اتخاذ القرار النهائي.


لو حددت ماهي معاييرك الحالية في مختلف الجوانب ثم رفعتها يتغير موقعك في الحياة. أيضًا الأب والأم يستطيعون وضع معايير تخص عائلتهم الصغيرة فتجعلهم أحيانًا يرفضون أشياء مقبولة في مجتمعهم المحيط أو يقبلون أشياء مرفوضة. يتصرف ابنك تصرف ما وتقول له "نعم هذا التصرف مقبول في مجتمعنا ولكنه مرفوض في بيتنا، لأن معاييرنا تختلف". ومن المعايير تنبثق القوانين التي تجسدها.


هذا المقال هو محاولة فاشلة للإجابة عن السؤال: كيف نقيم معايير الأمم والمجتمعات لنتمكن من حساب الفرق بين سريلانكا والفلبين؟! ربما يحتاج إلى دراسة علمية متخصصة.