رغبات قاتلة (3)
"لطالما رقصت على جثث الأسود كلاب"
"يسقط كل من خان"
"لا يستحق أن يولد من عاش لنفسه فقط"
"لا نريد عالما يخلو من القتل، بل عالم يخلو من تبرير القتل"
"بص في ورقتك"
"لماذا لا يموت ولاد الوسخة"
دي عينات بسيطة من مليون فخ وفخ بـ نقراهم يوميا على مواقع التواصل الاجتماعي، ونسمعها على ألسنة الإعلاميين، ونشوفها في كل مكان، وبـ تعبر عن رغبة من الرغبات القاتلة، وهي إيه؟
غرام رهيب بـ الجمل الرنانة اللي بـ تبرق كده، وتشر منها حكمة السنين والتنين، ويبان إنها جايبة الخلاصة، وكاشفة الزتونة، وقايلة كل حاجة، ومش محتاجة كلام لا قبلها ولا بعدها.
فيه ناس تحب تروح ناحية التراث وتجيب آيات وأحاديث، وأقوال الصاحبة وآل البيت، أو أشعار عمودية من كتاب أجمل ما قيل في المرأة والحب والحياة. وفيه اللي بـ يروح ناحية مفكرين وكتاب وعلماء وساسة غربيين معاصرين، روزفلت وأينشتاين وفولتير وهيمنجواي وجان جاك روسو ونابليون ومارتن لوثر كنج ومارتن لوثر حاف، وهلم جرا. وفيه الشعبي اللي بـ يحب الأمثال الشعبية و"الإديومز" اللي كان تيمور باشا بـ يسميها كنايات العامية. دول غير اللي بـ يلجأوا للأعمال الفنية أفلام ومسرحيات وأغاني ويقتبسوا منها، وفيه طبعا اللي يحب يصك تعبيره هو الخاص، ويتمنى له الانتشار.
الرغبة دي بـ تعكس غرام عربي قديم بـ البلاغة، ومن قبل الإسلام والعرب عندهم التقديس للكلام، يمكن لأنه الفن الوحيد اللي استوعب كل طاقتهم الإبداعية، حيث لا رسم ولا مزيكا ولا نحت ولا تمثيل ولا أي حاجة من الحاجات اللي بـ يعبر بيها البني آدم عن نفسه. ولذلك، كانت معجزة الإسلام الكبرى هي نص مقدس وصل لـ قمة البلاغة.
طب وإيه المشكلة في إن الإنسان يعبر عن نفسه بـ جملة بليغة تساعد أفكاره على الانتشار؟
المشكلة مش في الجملة، ولا في البلاغة، البلاغة حلوة مفيش كلام. المشكلة مين بـ يستخدم مين، البلاغة بـ تخدمنا، ولا إحنا اللي بـ نخدمها؟
فرق كبير بين إن يكون عندي فكرة، فـ أدور لها على توب جميل يزينها، وبين إني اقرأ جملة تعجبني، فـ هي اللي تشكل فكرتي، من غير ما يكون عندي حس نقدي يخليني أعرف أقول إيه إمتى لمين؟
وبمناسبة الجمل الرنانة، عبد القاهر الجرجاني قال جملة بليغة مؤثرة، أعتقد لو تدبرناها هـ نبطل نجري ورا الكليشيهات، قال إيه: "الألفاظ خدم المعاني"، يعني حضرتك مفيش مقولة صح أو بديعة أو شريفة في حد ذاتها، إنما السياق هو اللي بـ يحدد كل ده.
وفيه حكاية لطيفة عن ملك، له وزيرين، وفـ يوم كان له مشكلة مع وزير منهم، فـ بـ يشتكي للوزير التاني، بـ يحكي له اللي حصل: أمرته يعمل كذا ما عملش، سألته كذا رد علي رد ما عجبنيش، كان المفروض يهتم بـ كذا ما اهتمش، وهلم جرا.
الوزير اللي بـ يسمع طبعا انتهزها فرصة علشان يسخن، و"طوبة على طوبة خلى العركة منصوبة"، بس هو من الذكاء بـ حيث ما يقولش كلام يتمسك عليه، فـ اكتفى بإنه كل ما الملك يقول له حاجة، يرد ويقول: قال لـ جلالتك كده! سبحان الله! عمل كده! سبحان الله! سبحان الله! سبحان الله!
الجرجاني بـ يعلق ع القصة دي، بـ إن "سبحان الله" اللي هي المفروض من أهم جمل العبادة والطاعة، تحولت هنا لأداة لـ عصيانه، فـ مش كل الكلام الحلو حلو، المهم يبقى في مكانه.
ولذلك، لو حاولنا نفكك أي جملة رنانة، زي ما بـ يعمل خالد الشامي في بروفايله دايما، بـ سخرية، ممكن نوصل إلى إن كل الكلام فارغ، ومفيش جملة واحدة هـ تصمد لو حاولنا نعملها قاعدة نمشي وراها.
البلاغة حلوة، للي يفهمها