التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 09:32 م , بتوقيت القاهرة

الأسطورة 69.. أين العلماء والأطباء؟

"فيديو مضحك جدا"، "فيديو سخيف ثقيل الظل"، "كيف أمكنكم جمع كل هؤلاء معا؟"، "النتيجة ليست على مستوى الشخصيات الموجودة في الفيديو".
هذه هي نوعية الآراء التي كنتُ أتوقع أن أقرأها في التعليق على فيديو "الأسطورة 69"، العمل الساخر الذي أنتجه موقع "دوت مصر" وأخرجه محمد سلامة ليُعرض بمناسبة رأس السنة، متضمنا ظهور شخصيات نالت شهرة ضخمة على وسائل التواصل الاجتماعي، منهم أحمد التباع ومجنون أحمد شيبة وآخرون. 



ففي النهاية، هو عمل كوميدي خفيف لا يهدف إلا للإضحاك، لم يدعِ صناعه أنهم يفعلون أكثر من هذا، والحقيقة أنهم قد نجحوا بشكل كبير في تحقيق هدفهم.
المشكلة أن المُتابع للتعليقات التي بلغت رقما ضخما على الفيديو، سيجد أن نسبة لا بأس بها من المعلقين (يكاد يكون نصف العدد تقريبا)، لا يرفضونه من منطلق عدم رضاهم عن مستواه، أو أنهم يرونه ثقيل الظل غير مضحك، ولكن لأنه ـ وأنا أقتبس من بعض التعليقات حرفيا ـ يقدم صورة سيئة عن مصر، ويتجاهل العلماء والأطباء والمهندسين. التعليق قد يكون مقبولا عندما يأتي من شخص أو عدة أشخاص، يُمكن وضعهم في عداد المهووسين، لكن عندما تنظر نصف التعليقات تقريبا من نفس الزاوية الغريبة، فالأمر يستحق التوقف قليلا.
هناك أمران لابد أن نتفق عليهما من البداية، أولهما أنه، كما قلت، فيديو كوميدي ساخر لا أكثر، وثانيهما أن الشخصيات الموجودة فيه شخصيات حقيقية وليست مختلقة، نالت شهرتها بشكل منفرد عن طريق تسجيلات ومقاطع فيديو سُجلت في الأغلب بالصدفة، فلم يكن أحدها يمتلك قصدية صناعة عمل ناجح، كان مجرد نقل تلقائي لواقع أغرب من الخيال. 
هذا ليس عملا تعليميا، ولا يهدف إلا للتسلية والسخرية، أمران يبدو أن عقودا من ثقافة المزايدة والادعاء جعلتهما هدفا مشينا يجب ألا يسعى أحد لتحقيقه. 
أين العلماء والأطباء؟ في مختبراتهم ومستشفياتهم! ولا علاقة لهم من قريب أو بعيد بصناعة الأعمال الكوميدية الساخرة، وهناك برامج ومقاطع فيديو وتغطيات عديدة تتحدث عنهم وتنقل حياتهم، لكنّها لا تلقى ولو عُشر نجاح وشعبية المقاطع الساخرة، ليس لأننا بلاد متخلفة أو كارهة للعلم (وهي حقيقة)، ولكن لأنها طبيعة الأمور في كل مكان بالعالم بما فيه الدول المتقدمة التي تحترم العلم والعلماء.
أبسط أغنية لمغن أمريكي تجلب أضعاف مشاهدي أي فيديو علمي، وأقل مقطع أوروبي كوميدي مضحك ينال انتشارا أكبر بكثير من أي مقطع رصين عن قصص النجاح. الاستمالات الأكثر تعقدا تحتاج جمهور أكثر تخصصا وبالتالي يقل عدده، في مقابل الاستمالات البسيطة التي تعجب واسع الثقافة ومحدودها على حد سواء، فيكون من الطبيعي أن تنجح وتنتشر بشكل أوسع. ومن حق أي جهة إعلامية أن تنتج النوع الذي يحلو لها، سواء اختيار المواد المتخصصة ومخاطبة جمهور محدود، أو اختيار الجماهيرية، أو المزج بينهما، كما يحاول موقع دوت مصر أن يفعل وفق رصدي الشخصي له.
رفضك النوعي للسخرية والتسلية لا يعني أي شيء لأي إنسان سواك، اللهم إلا من يراك بحاجة لعلاج نفسي ينقذك مما تعانيه، وعدم فهمك لأن الجمهور بشكله الجمعي يفضل في رأس السنة ـ وفي السنة كلها حقيقة ـ مشاهدة حمبولا عن البرامج التعليمية، هو رأي لا ينفي هذه الحقيقة ولا يُجبر أي وسيلة إعلامية على تجاهلها. 
وطالما لم تحمل الجهة المنتجة عنوانا متخصصا من نوعية "النيل الثقافية" أو "إذاعة القرآن الكريم"، فمن حقها أن ترتجل وتجرب كل شيء، خاصة لو كانت نتيجة التجربة بهذا القدر من خفة الظل. مع عدم إغفال حقيقة تنوع إنتاج دوت مصر بين الجاد والساخر، الجماهيري والمتخصص، وهذا رأيي الخاص كمتابع فرد لا يربطه بالموقع أكثر من رسالة أسبوعية يرسلها متضمنة مقاله الذي يُنشر دائما دون رقابة أو تعديل.
في النهاية أنا لا أدافع عن دوت مصر، فهم أجدر في الحديث عن أنفسهم واختيار صورتهم الذهنية لدى جمهورهم، ولكني أدافع عن القيمة التي أراها مركز أي حكم منطقي على الأمور، قيمة طرح الأسئلة الصحيحة من أجل الوصول لنتيجة مفيدة. وعندما تشاهد عملا كوميديا يفترض أن تكون الأسئلة الصحيحة تتعلق بمستواه الفني ومدى تحقيقه لهدفه وقدرته على إضحاك المشاهدين وتسليتهم، فهو هدف نبيل وصعب المنال. أما الأسئلة المحافظة المهووسة من نوعية أين الأطباء والمهندسين، فتذكرني بمن كان يعلق على أي حدث سياسي أو اجتماعي بسؤال "أين البرلمان؟". 
وبالمناسبة، الجهة الوضيعة التي ينتمي إليها المذكور، هي أكثر المتشدقين بتواجد الأطباء والمهندسين بين أفرادها، يمكنك بسهولة أن تجد ضالتك لديهم!