التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 11:42 ص , بتوقيت القاهرة

سيب إيدك أنت

تقول القصة التاريخية، وربما هي الأسطورة، إن زوجة أحد ملوك إنجلترا أرادت أن تتوسط للفلاحين والبسطاء لدى زوجها الملك في أن يزيح عنهم الظلم ويخفف أعباء الضرائب التي أرهقتهم، فطلب منها الملك طلبًا غريبًا، أنها إذا كانت صادقة حقا في دعم مطالب الفلاحين؛ فلتخلع ملابسها وتطوف المدينة عارية على ظهر حصان.


وقبلت الملكلة العرض، وشاع الخبر في المدينة، وفي تلك الليلة الموعودة، خرجت الملكة عارية في الشارع، فما كان من سكان المدينة إلا أن اتخذوا قرارا جماعيا بإخلاء شوارع المدينة من المارة وأن يلزم كل رجل بيته، ثم أغلقت المدينة نوافذها تضامنا فلم ينظر منها أحد. وسارت الملكة في المدينة كأنها تسير في حمام بيتها الخاص دون أن يكشف سترها أحد.


الفارق بين التاريخ والأسطورة دقيق جدا، والأساطير الشعبية هي حقائق تاريخية لدى الناس. وهي جزء من رؤيتهم عن الحياة وتجسيد لما يطمحون فيها. وتلك القصة تُثبت أن الوعي الجمعي لشعب بعينه، وأن الثقافة السائدة أقوى بكثير من ألف قانون وألف حكم قضائي. وأن الدولة لا تفرض الفضيلة عليهم، بل تفرض العدل وتفض المنازعات، وتحسن إدارة الموارد.


طالعتنا الأخبار بالحكم على إسلام بحيري بالسجن خمس سنوات لازدراء الأديان، وتحويل بطلة كليب سيب إيدي للمحاكمة بتهمة نشر الفسق والفجور..! سؤالي ألم نقم بثورة على الفاشية الدينية حتى لا نرى مثل هذه السخافات تسيطر على فكر الدولة وساحات القضاء ونتفرغ للعمل والتنمية والتنوير الحقيقي. 


الدولة الدينية يقودها مراهقون فكريون، متوقفون عند جسد المرأة، ويحاربون الفكر بالقمع، دون أن يدركوا أنه كلما زادت درجة الضغوط  زاد معدل المقاومة. فروسيا عندما حاربت الأرثوذوكسية زاد الدين. ومحمد مرسي عندما حارب الليبراليين انتصروا عليه. ومبارك عندما حارب الإخوان انتشروا في الأرض. والسعودية حاربت الرذيلة فزاد إقبال الشباب على مشاهدة المواقع الإباحية وزادت نسب الشذوذ الجنسي.


دعنا نتوقف عند مُسلّمة رئيسية وهي أن كل من يخرج عن إطار الدولة الحديثة يجب القضاء عليه تماما وبكل قسوة. لكن ما هو مرفوض أن تهبط الدولة إلى سن المراهقة لتخوض قضايا تافهة وتتخلف عن دورها الحقيقي. المراهقون مندفعون، عاطفيون، عقولهم غير ناضجة، ويخوضون المعارك الخطأ لإثبات ذاتهم الناقصة. فلماذا نرفض المراهقة الدينية؟ ثم ننجر إلى مراهقة سياسية وقضائية، في ثوب حداثي لا يختلف كثيرًا عن سُنة من نحاربهم.


الحكام الدينيون يغطون على فشلهم في الإدارة والسياسة بادعائهم الفضيلة وحمايتهم للشرف وتنصيب نفسهم مدافعا عن راية الدين. فلا نريد أن نكرر ذات الأفعال بمفهوم الوطنية في دولة نحلم أن تكون عادلة وناجحة ومستنيرة. ولا نريد أن نُبرر ذلك. فجناية المثقف على دولته في العصر الحديث كانت أكبر بكثير من جناية رجل الدين. قال بيكون، إن النقد هو الوسيلة الأقوى التي اكتشفها الإنسان لبناء الدول، ونحن نبتغي البناء النقدي، بينما غيرنا يهدم الدولة بالمنافقة والمداهنة والتأييد الأعمى.


كتبت الإندبندنت عن تقرير لرابطة حقوق الإنسان الدولية، يتحدث عن العنف الجنسي الممنهج في مصر على يد أفراد للشرطة. لا أدري مدى صحة التقرير، لأني لا آخذ كل تقرير وارد من الخارج على محمل التصديق القطعي، لمجرد أن الخواجة قال به، ما لم أقم بإعادة التيقن والفحص. لكن على أية حال، فقيام ثورة يناير كان يدور بالأساس حول ممارسات الشرطة. وثورة 30 يونيو كان للشرطة دور فاعل فيها. وكلنا لا ينكر مدى أهمية مؤسسة الشرطة في أي دولة قوية ومحترمة.


المواطن المصري عندما يتشاجر في الشارع فسرعان ما يقول، اطلبوا الحكومة أو هنروح للحكومة أو الحكومة هتيجي، والقصد هو الشرطة. فالتعريف المباشر في ذهنية المواطن المصري لمعنى الحكومة هو جهاز الشرطة الذي يحل المنازعات ويحمي الناس ويسمح بوجود بيئة آمنة للسعي لطلب الرزق.


لذلك نرفض ما فعلته شرطة مبارك "العلماني" التي كانت تجرد الفتيات من ملابسهن. ونرفض إدخال أسياخ محمية في أماكن حساسة من أجساد المتهمين. ونرفض الانتهاكات الجنسية للأحداث المعتقلين في مؤسسات عقابية. ويجب أن نتذكر أن جهاز شرطة الدولة الدينية التي رفضناها، أو ممارسات داعش التي نحاربها، قد يشابه أفعالا لشرطة الدولة "المستنيرة" التي نعيش فيها. فلماذا نرفضهم ثم نمشي على خطاهم إذن..! 


بعضهم لا يؤمن بالحرية إلا لو كانت حريته هو في التعبير عن نفسه والقضاء على كل معارضيه. تلك هي الحرية في مفهومه الخاص. لذلك فالمشكلة لا تكمن في التطرف الديني، ولكن في التطرف ذاته، في أي جهة.


المشكلة في النفوس المشوهة الغليظة التي تكره الجميع وتريد الانتصار لذواتها الضيقة، المشكلة في العقول الموجهة غير المحايدة قصيرة النظر، المشكلة في عدم القدرة على إدارة التعايش واتهام كل طرف نظيره أنه سبب الطامة الكبرى. المشكلة في اختزال القضايا وتسطيحها والتفاهة والكذب على التاريخ وتزوير الواقع.


اللوثة العقلية لم تصب الإخوان فقط والتفكير السلفي لم ينفرد به ياسر برهامي والعنف لا يمارسه الظواهري وأعوانه وحدهم. بل المرض منتشر في قطاعات مدنية أوسع وهو ما يجب أن ننتبه له. تحيا مصر، دولة تؤمن بالحرية والثقافة والتعايش والتعددية.