السلفيون والدولة
في حوار قديم للدكتور طارق حجي خبير الطاقة، قال إنهم كانوا حين يجلسون مع حبيب العادلي وقت أن كان وزيرا للداخلية، في حفلات العشاء، ويسألونه عن التيار السلفي في مصر، كان يجيبهم أن أمن الدولة يُربي هؤلاء في الحديقة الخلفية؛ للقضاء على الإخوان.
وهذه المقولة تنم عن معرفة فاحصة للعلاقة بين التيارين على مستوى القيادات والقواعد. وأن الدولة كانت تلعب بالنار التي توشك أن تحرق البلاد من أجل مخاتلة سياسية فارغة.
السلفيون مقتنعون أن الاحتكام للدستور كفر، وأن البرلمان يقوم على تشريعات وضعية تخالف ما أنزل الله. وأن التسابق على البرلمان إنما هو تسابق لحكم الطاغوت. وكان رأيهم هو العمل الشعبي والدعوي الدؤوب والمستمر لتهيئة المجتمع لتطبيق الشريعة كما يرون.
إلى هذا الحد فالفكر السلفي لا يختلف كثيرا عن أي فكر تكفيري آخر يتطور فيمتلك سلاحا فيقتل الناس ويحارب الدولة.
لكن السلفيين يرون في ذات الوقت أن الطاعة لولي الأمر واجبة، وأن الخروج عليه معصية كبرى، لأن الخروج عليه يقود إلى فتنة أعظم وخراب أكبر، خاصة لو كان ولي أمر باطش أو متجبر أو يمتلك أدوات الغلبة والتمكن.
أيضا لدى السلفيين اهتمام بالغ بفقه المظاهر والشكليات واهتمام أكبر بكل ما يحيط المرأة، حتى أنهم يتحدثون عنها أكثر من حديث أطباء النسا والولادة. وهم إلى جوار ذلك عازفون عن الاحتكاك بأي قضية اقتصادية أو أمنية أو تنموية، أو الحديث عن أي فساد إداري أو سياسي أو تعليمي. جل همهم ينصب حول ثياب المرأة ولحية الرجل وختم القرآن دون أن يقود إلى أثر مباشر في انتهاض المجتمع أو مقاومة الظلم أو الوقوف للبطش والاستبداد.
وهنا نقطة التواصل بين الجهاز الأمني للدولة في عهد حبيب العادلي وبين السلفيين.
طبعا لن نخوض في نقاش منهجي حول أنواع السلفيات. فهناك سلفية وهابية متحالفة مع الدولة ومتصالحة معها، وهناك سلفية تكفيرية تخرج على الحاكم وتُكفره، وهناك سلفية جهادية ترى بإحياء الفريضة الغائبة وهلم جرا.
هنا نحن نتحدث عن السلفية المدجنة التي تسير في ركاب الحاكم. وهؤلاء لا يختلفون عن المثقفين "المستنيرين"، الذين ساروا في ركاب الحاكم على مدار قرون يمارسون تنويرا هشا للتسلية والإلهاء، بينما يتركون الدولة تنحط رويدا رويدا. لأن الفضيلة الأولى في بناء الدول هي الحق في النقد. وهؤلاء لم يكونوا فضلاء.
ولذلك وجدت الدولة القمعية في عهد مبارك، التي كانت ترفع شعارات علمانية، بُغيتها في هذا التيار، الذي يلهي الناس في قضايا جانبية وساذجة، ولا يحتك بالسلطة في أي مساحات سياسية ويعزف عن المشاركة الانتخابية، ولا يهتم بالفساد، كما أنه يخضع لأوامر رجال الأمن.
والتصريح الشهير للشيخ محمد حسان في أحد لقاءاته يؤكد على أنه كان قبل صعوده المنبر لا يجد حرجا، بل يجده واجبا، أن يستشير أحد رجال الأمن، ويستجيب لقراراته لو قال بإلغاء الخطبة أو وجوبها. فإخواننا في الأمن- على حد تعبير الشيخ حسان- يعرفون في مصلحة الوطن أكثر منا..!
الشيخ حسان هو الذي وقف عام 2008 على المنبر يمجد حكمة السيد الرئيس محمد حسني مبارك، ثم بعد خروج الثورة كان الداعية الأول لفض الميدان وعودة الثائرين، ثم هو الذي جلس في مقصورة المجلس العسكري جوار الأزياء الكاكية الفخيمة وكان خطيبهم الأول، ودعا لهم من فوق جبل عرفات.
ثم انتقل ولاؤه فيما بعد للرئيس الشرعي المنتخب الدكتور محمد مرسي، ووقف على منصة "الشريعة والشرعية" يدعو له بالبركة وطول الأمد، قبل أن يغادرها سريعا حينما شعر بالغرق ليبيع ولاءه للحاكم المتغلب الجديد.
السلفيون أكثر راديكالية وتشددا من الإخوان، فهم يُحرمون الموسيقى وخروج المرأة للعمل، ويرفضون السلام الجمهوري، والانصياع للوطن ويعادون الآخر وقاموا بشجار كبير حول كلمة "السيادة للشعب" في الدستور، ويريدون تطبيق الحدود تطبيقا حرفيا دون أي تأويلات أو اجتهادات فقهية.
وهذا التشدد جعل لهم عداءات كبيرة مع الإخوان في الشارع. فهم يرون الإخوان مفرطين في دينهم لأنهم يأخذون من لحاهم أو ينشدون الأناشيد مستخدمين الموسيقى، أو أنهم يعقدون التحالفات مع الليبراليين والعلمانيين (تحالف الإخوان مع حزب العمل وحزب الوفد في انتخابات 1984 و1987)، وهذا العداء هو الذي جعل أجهزة الدولة تعطيهم مساحة واسعة للحركة والتحكم في المساجد وصعود المنابر وامتلاك الفضائيات، لضرب عدوهم التقليدي، وطبعا لا يوجد منهم خطر لأنهم لا يشتبكون مع الدولة في شيء، ولن يعارضوا مشروع التوريث، ويرون بوجوب السمع والطاعة.
هذا التحالف الذميم، سمح لهم بتحويل الأموال من الخارج وافتتاح جمعيات غير مرخصة وغير مراقبة والتمدد في أرجاء البلاد شرقا وغربا حتى أصيبت عقول الناس بلوثة التدين المتخلف.. نعم كان ذلك من فعل الدولة، وتحالفا مقيتا مع التخلف لمجرد أن هذا التخلف يلهي الناس عن مشاغلهم السياسية.
فالسلفيون يقنعون الناس أنهم فقراء ومرضى لأنهم غير ملتزمين دينيا، وأنهم لو كانوا أكثر تقوى وكانت النساء أكثر حشمة لرزقهم الله ولفتح عليهم السماء مدرارا. وكأن الرزق ليس لديه أي أسباب سياسية وعلمية واقتصادية. وهي شهادة البراءة الأكبر لأي نظام سياسي فاسد، ونزع فتيل الغضب من النفوس المشحونة يوميا من سوء الإدارة وفساد الدولة وتوجيهه إلى لوم الذات والمبالغة في الصوم وقيام الليل.
ياسر برهامي له تصريح شهير أن أول شيء سيفعله الإخوان حال تحكمهم من مفاصل الدولة هو القضاء على السلفيين.. هكذا يظن الرجل.
ولكن بعد الثورة وبعد تبدل الولاءات، وبعد أن تعلم الكل أصول السياسة أنه ليس هناك عدو دائم ولا صديق دائم ولكن مصالح دائمة، وجدنا الإخوان والسلفيين عادوا ليتحالفوا معا بعد معركة انتخابية شرسة في البرلمان. وقال الأستاذ نادر بكار المتحدث باسم حزب النور "الدكتور مرسي خط أحمر والاتحادية خط أحمر" قبل أن يقفز من المركب هو الآخر وينصاع لتعليمات أمنية.
وهذا التحالف الذميم الثاني هو الذي أخذ البلد إلى الوراء.. فالإخوان كانوا يحاولون إظهار قدر أكبر من التشدد الديني والنزوع إلى الأصولية الدينية وتبعد عن التحالف مع قوى وطنية وديمقراطية وليبرالية لإرضاء حلفائهم الدينيين. فمثلا لم يحضر الرئيس محمد مرسي إلى الكنيسة في العيد مخافة أن يلومه السلفيون. كذلك حرص على صلاة الجمعة في جماعة كل أسبوع في موكب رسمي ضخم يذكرهم بأمجاد دولة الخلافة.
السلفيون لا يثقون في الإخوان، ولا يثقون في الدولة الديمقراطية الحديثة، وطموحهم قريب من دولة مماثلة لحكم طالبان والقاعدة، لكنّهم لا يعلنون ذلك. ويتحالفون مع أي حد طالما يضمنون الأمان. وهذا ما جعلهم يتحالفون مع مبارك ثم مع المجلس العسكري ثم مع الإخوان ثم مع الرئيس السيسي.
وهو ما جعل ياسر برهامي، رغم إعلانه مساندة الرئيس مرسي في جولة الإعادة، يذهب إلى فيلا الفريق شفيق سرا وينتظره في الجنينة حتى يعقد معه تفهمات الولاء والسمع والطاعة لو فاز بالانتخابات بعد أن تأخر إعلان النتيجة وخرجت تكهنات بفوز الفريق شفيق.
وهو ما جعل الأخ بكار يقول الاتحادية خط أحمر في عهد مرسي، ثم وجدناه بسهولة يمتلك ممحاة "أستيكة" تمحي كل الخطوط الحمراء والزرقاء والكاروهات.
ومر الوقت وها نحن نرى تحالفات أخرى بين النظام الجديد الناشئ أعقاب ثورة 30 يونيو، وبين السلفيين.. فبعد أن كانت وزارة الأوقاف قد تحكّمت في كافة المساجد ومنعت أي خطيب غير مرخص من الخطابة، سمعنا منذ فترة بسيطة عن عودة قرابة 3 آلاف مسجد إلى تحكم السلفيين ليمارسوا فيها الدعوة والخطابة.
فهل تكرر الدولة التحالف مرة أخرى مع قوى التخلف السلفي التي قتلت العقل المصري لعقود طويلة في مقابل ولاء وانتماء هؤلاء للدولة؟! هل هذه الدولة التي تدعو حقا للتنوير الديني وإصلاح الخطاب الديني.
الفرق بين بعض هؤلاء السلفيين وغيرهم المقاتلين في سيناء وداعش هو القدرة على امتلاك سلاح.. السلفيون المناصرون للدولة ليسوا أكثر استنارة ولا رحمة أو إخلاصا من غيرهم، بل هم أكثر مداهنة وتلونا وقدرة على الاستكانة لظروف غير مواتية إلى أن تسنح الظروف للعودة إلى أصولهم.. وأصولهم هي كراهية الآخر وعداء الدولة الحديثة وممارسة القمع.
فماذا تفعل الدولة بنا..!