التوقيت الإثنين، 25 نوفمبر 2024
التوقيت 10:13 م , بتوقيت القاهرة

زمن الأصولية

أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب في سلسلة "المكتبة السياسية"  كتابًا للمفكر الدكتور مراد وهبة بعنوان "زمن الأصولية.. رؤية للقرن العشرين"، والكتاب يتضمن مجموعة مقالات أسبوعية نشرها الكاتب في جريدة الأهرام تحت عنوان "رؤيتي للقرن العشرين"، منها: العصر الذهبي للفيزياء، عاصفة فلسفية، الفلسفة بين الحرب والسلام، تأسيس العلمانية، بؤس الحضارة، الحرب الثقافية الباردة، أزمة المرأة، تناقضات العالم الإسلامي، أزمة العقل العربي، الإبداع، غاندي والأصولية، مفارقة ابن رشد، الفلسفة في القرن العشرين، وغيرها من المقالات.


وتحت عنوان ما معنى الأصولية الدينية؟ يقول الدكتور مراد وهبة: إن  لفظ الأصولية مشتق من «أصول» في اللغة العربية ومشتق من  ( Fundamentals )في اللغة الإنجليزية، وأغلب الظن أن التي مهدت لصك المصطلح الإنجليزي، سلسلة كتيبات صدرت بين عامي 1909-1915  تحت عنوان "الأصول"، بلغ توزيعها بالمجان ثلاثة ملايين نسخة، أُرسلت إلى القساوسة والمبشرين واللاهوتيين، والأفكار المحورية في هذه الكُتيبات يمكن إيجازها في ثلاث أفكار، وهي: الجهاد من أجل الدفاع عن الأصول، رفض النظريات العلمية التي تتناقض مع الإيمان بالوحي الإلهي، رفض آراء الليبراليين اللاهوتيين.


وعندما انتقلت الأصولية الدينية إلى الدول العربية والإسلامية، فإنها لم تكتف بهذه المسارات الثلاثة، بل توجهت رأسًا إلى الجهاد من أجل الاستيلاء على السلطة السياسية، وعلى المجال العام، لتفرض رؤيتها من الداخل والخارج، ومن هنا تولد العنف وصولاً إلى أحداث 11 سبتمبر سنة 2001 وما بعدها.


والأصولية عند مراد وهبة هي "التفكير في النسبي بما هو مطلق وليس بما هو نسبي"، ومن ثمّ فإن انفراد الأصوليات بالهيمنة يعني استحالة الدعوة إلى السلام، لأن السلام لا يتحقق إلا بالمفاوضات على نحو ما هو وارد في تاريخ الحروب، والمفاوضات تستلزم الانصياع لتنازلات من قبل الطرفين المتحاربين، والتنازلات تقتضي هز ما كان ثابتا، وبالأدق ما كان يبدو أنه مُطلق، ويكمن خطر الأصوليات الدينية في أنها مُطلقات، والمُطلقات بالضرورة في حالة صراع إن لم تكن في حالة حرب، لأن المُطلق بحكم تعريفه هو واحد بالضرورة، ومن ثم فهو لا يقبل التعدد، وإذا تعدد فإن مُطلقاً واحداً هو الذي يشتهي أن يسود، ومن شأن تحقيق هذه السيادة اشتعال الحروب.


ولأن التنوير يعني الجرأة في إعمال العقل، فإن التنوير على علاقة تناقض حاد مع الأصوليات بسبب رفضها لإعمال العقل في النص الديني مما ترتب عليه رفض الأصوليات للحداثة، لأن الحداثة هي ثمرة التنوير، وحيث إن الحداثة معادلة للثورة العلمية والتكنولوجية التي هي ضمير القرن العشرين، فإنّ الأصوليات في هذه الحالة يمكن اعتبارها نتوءًا في مسار الحضارة الإنسانية، ويرى وهبه أن هناك علاقة بين الدين والاقتصاد، وأن الطبقة الاجتماعيىة المسايرة لهذا النتوء الثقافي هي طبقة رأسمالية غير مستنيرة ويُطلق عليها مصطلح "رأسمالية طفيلية" لأنها تتصاعد ثراءً بطريقة صاروخية بسبب تعاملها مع كل ما هو طفيلي مثل: تجارة المخدرات، والسوق السوداء، وشركات توظيف الأموال، و"الرأسمالية الطفيلية" تدخل في علاقة عضوية مع الأصوليات الدينية بسبب أن كلاً منهما ضد المسار التنويري للحضارة الإنسانية.


ويرى وهبة أن "الدوجماطيقية" أي توهم امتلاك الحقيقة المُطلقة هي مركز الصراعات، ويقع الإنسان في هذا الوهم بحكم طبيعة العقل الإنساني الذي يشتهي اقتناص المُطلق حتى يشعر بالأمن والأمان، إلا أن هذا الاشتهاء ليس في الإمكان تحقيقه لأن العقل بحكم أنه إنساني الطابع فمعرفته نسبية بالضرورة، ومع ذلك فثمة فلسفات تتخذ من المُطلق نقطة البداية، وترتب عليه ما يطيب لها من أفكار، ويؤسس عليها رجال الحكم أنظمة سياسية تتسم بالقهر والطغيان، فيُقال عنها عندئذ إنها: إما نازية، إما فاشية، إما شيوعية، إما أصولية، وهي كلها تقع تحت بند "الدوجماطيقية" التي تفرز التعصب بالضرورة.


ولذا بدون العلمانية فإن السلام لا يستقيم، والعلمانية يعرفها مراد وهبة بأنها: "التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مُطلق"؛ ونظراً لأن الأصولية هي" التفكير في النسبي بما هو مُطلق وليس بما هو نسبي"، فإنه يوجد تناقض حاد يقوم بين الأصولي والعلماني، وإذا كان التناقض يعني بالضرورة إقصاء أحد الطرفين للآخر، فالعلماني يقصي بالعقل، والأصولي يقصي بالإرهاب، ولكن كيف يتم الإقصاء بالعقل ؟


يقول وهبة: إذا تناولنا العلمانية على أنها مسألة معرفية تخص مجال العقل قبل أن تخص أي مجال آخر، فوفقًا لنظرية كوبرنيكس، القائلة بدوران الأرض حول الشمس فمن ثم لم تَعُد الأرض مركزاً للكون، وبالتالي لم يَعُد الإنسان مركزاً للكون, وإذا لم يكن الإنسان مركزاً للكون، ومن ثم فلا يكون من حقه الزعم بأنه قادر على قنص الحقيقة المُطلقة، لأن هذا القنص ليس ممكنًا إلا إذا كان الإنسان في مركز الكون، ومعنى ذلك أن العقل الإنساني ليس في إمكانه التفكير بالمُطلق وفي المُطلق، إنما في إمكانه التفكير بالنسبي وفي النسبي.


ولو تعلم الأصوليون هذا الدرس وأدركوا أن لا أحد يمكنه امتلاك الحقيقة المُطلقة، لكفوا عن التكفير والعنف، واستراح العالم من شرور الإرهاب وإراقة الدماء، ومن خطر مُلاك الحقيقة المُطلقة.