التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 06:46 م , بتوقيت القاهرة

تقريران "خام" عن حالة مصر

في هذا المقال أنا مجرد ناقل لكلام الآخرين. اخترتُ لك رؤيتين، أراهما مفيدتين، في تقييم الوضع المصري الراهن. مكمن الفائدة هو انطلاق الرؤيتين (أو التقريرين) من "المادة الخام" للواقع، مع التركيز على الأرقام والمُقارنات دون إغراق في تفصيلات أو فرعيات. إنه مدخل أولي ضروري قبل تكوين أي رأي أو إصدار أي حُكم بشأن الموقف الحالي في مصر.


الرؤية الأولى: الإيكونوميست


العنوان الفرعي الذي استخدمه تقرير العدد الأخير من الإيكونوميست هو التالي: " الرئيس حصل على استثمارات ولكنه لم يتمكن بعد من إصلاح الاقتصاد". التقرير يقول إن كل المؤشرات الاقتصادية تُشير إلى الاتجاه الصحيح. معدل النمو خلال النصف الأول من العام وصل إلى 5.3%، مقارنة بـ 1.2% خلال نفس الفترة من العام الماضي. البطالة (التي يصل معدلها إلى 13%، والنسبة أعلى بكثير بين الشباب) تتراجع. ويُعد تدفق الاستثمارات الأجنبية المُباشرة (زادت بمعدل 140%) هو المؤشر الأهم على تعافي الاقتصاد. مصر، التي يبلغ عجز الموازنة فيها 11%، كما تبلغ نسبة الدين العام إلى الدخل القومي 95%، تحتاج بشدة إلى النقد الأجنبي.


لم يحدث هذا من فراغ. التقرير يُشير إلى أن سياسات خفض الدعم على المحروقات (وبالتالي خفض عجز الموازنة)، وتسوية المتأخرات مع شركات الطاقة العملاقة، شجعت شركة مثل "بريتيش بيتروليوم" على استثمار 12 بليون دولار في مصر. هذا استثمار ضخم، يُضاف إلى أموال قادمة من الخليج (مساعدات واستثمارات).


الصورة ليست وردية تماما. مصر تحتل المرتبة 112 على مؤشر البنك الدولي من حيث سهولة عمل المشروعات، وهي تأتي في مرتبة متأخرة عن زامبيا وسوازيلاند (للمقارنة: تركيا تحتل المرتبة 55، والمغرب 71). يحتاج المستثمر لتصريحات من 78 جهة حكومية لبدء أي مشروع. ومشروع الشباك الواحد لن يتحقق فعليا قبل نهاية العام القادم. هناك شكوى مستمرة لدى المستمثرين من معدلات الضرائب التي تصل في حدها الأقصى إلى 30%.


تُشير الإيكونوميست إلى أن هناك غموضا يكتنف الوضع السياسي والأمني. الاستقرار الظاهر قد يُخفي انتقال التهديدات إلى تحت الأرض. هناك مخاوف من تزايد العنف، ليست فقط في سيناء ولكن في القاهرة أيضا. الانتخابات البرلمانية جرى تأجيلها لأجل غير مسمى، وهذا خلق حالة من الغموض أثرت على البورصة.


خُلاصة تقييم الإيكونوميست أن الاتجاه العام للاقتصاد صحيح وقد يؤتي أكله بعد حين، ولكن الغموض السياسي يُعطي انطباعا عاما بانعدام اليقين.


الرؤية الثانية: عبد المنعم سعيد


إنه تقييم كتبه المفكر السياسي الكبير عبد المنعم سعيد لمركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة "برانديز" حول رئاسة السيسي، ونُشر قبل عدة أشهر. على أن الأفكار الواردة فيه ما زالت صالحة لتقييم موقف مصر تحت رئاسة السيسي اليوم. فهو تقييم متوازن، لا يُركز فقط على نقاط قوة رئاسة السيسي، وإنما ينظر أيضا إلى نقاط الضعف والنقص.


المدخل لفهم السيسي، وفقا لرؤية د. سعيد، هو التنمية. الرجل يرى مشاكل مصر كلها من زاوية الاقتصاد. هو مقتنع أن حل هذه المشاكل يُعد شرطا لازما قبل الانتقال للبحث عن الديمقراطية (عبر السيسي عن ذلك في دراسته التي كتبها وقت دراسته في الولايات المتحدة في 2006). يُقدر السيسي أن مصر تحتاج عقدين قبل الوصول إلى نقطة آمنة تؤهلها للانتقال الديمقراطي. ما الذي يحتاجه؟ بالتحديد 500 بليون دولار (أي ضعف الناتج القومي السنوي لمصر والذي يبلغ 270 بليون دولار). هو يحتاج لهذا المبلغ لتغيير وجه مصر. ولكن من أين يحصل على هذا المال؟


السيسي يعوّل على طبقة رجال الأعمال التي ازدهرت في العقود الثلاثة الماضية، والتي شهدت مصر خلالها معدل نمو- في المتوسط - يصل إلى 4.5% سنويا، وهو معدل مقبول بالنسبة للدول النامية. هو ينتظر دعما من المصريين في الخارج (عددهم 8 ملايين). قفزت قيمة التحويلات السنوية لهؤلاء من 13 مليار دولار عام 2011، إلى 18.4 مليار دولار عام 2012، وهم يشكلون رصيدا جيدا للخبرة وليس فقط التمويل. وأخيرا، هناك الدعم العربي (في صورة مشروع مارشال لإنعاش الاقتصاد)، والاستثمارات الأجنبية.


خطة السيسي بسيطة إذن. تنمية مصر عبر جذب الاستثمارات والخروج من مساحة الميلون كم2 التي يعيش عليها المصريون إلى امتدادات تصل إلى الصحاري والسواحل. هو يُريد تحويل مصر من دول نهر، إلى دولة ساحلية أيضا. هذه الاستثمارات سوف تخلق فرص عمل  وتقلص بالتدريج عدد الفقراء (الفقير هو من يعيش على أقل من دولارين يوميا)، الذين وصلت نسبتهم إلى 26% من سُكان مصر، بعد أن كانت 16% عام 2000، علماً بأن  66% من هؤلاء الفقراء يقطنون الصعيد. 


ما المُشكلة في هذه الخطة؟


المشكلة أن سياسة السيسي الاقتصادية ليست واضحة بعد (لم تكن واضحة وقت كتابة الدراسة وما زال الغموض يكتنفها إلى اليوم). فبرغم إشارات شُجاعة، أهمها تقليص الدعم على المحروقات في يوليو 2014، فإن التوجه العام ما زال غائما. ليس واضحا كيف سيعيد السيسي هيكلة القطاع الحكومي المتضخم وغير المنتج والذي يصل حجمه إلى 6 ملايين موظف. هناك إشارات مقلقة لاعتماد متزايد على الجيش، بما قد ينطوي على قراءة خاطئة لتوجهات المصريين التي تثق في الجيش، ولكنّها قد لا ترغب كثيرا في دور مُهيمن للمؤسسة العسكرية، سواء في الاقتصاد أو السياسة.


المُعضلة تكمن في التناقض بين رغبات التنمية الاقتصادية من ناحية، وبين تهيئة المناخ السياسي الملائم لهذه التنمية من ناحية أخرى. يُلاحظ د. سعيد أن السيسي يفتقر إلى "ظهير مدني"، وأنه يستند في شرعيته على الناس بصورة مُباشرة. الخطر هنا هو الميل اللاشعوري نحو الشعبوية، والاستعاضة عن الأفعال بالمظاهر والرسائل الرمزية.


خلاصة هذه الرؤية كالتالي: رئاسة السيسي ليست كارثة كما حذر أغلب المتابعين الغربيين، وبها مقومات نجاح، كما تنطوي على نقاط ضعف لا يُستهان بها. أزعم أن هذا التقييم لا زال صحيحا بعد نحو عام على رئاسة السيسي، وعلى كتابة دراسة عبد المنعم سعيد.


تقييم الإيكونوميست ورؤية عبد المنعم سعيد يعكسان اتجاها متطابقا: هناك إمكانية للنجاح، ولكننا لم نضع أرجلنا بعد على طريق آمن ومستقر، توطئة للانطلاق.