التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 02:13 م , بتوقيت القاهرة

متميزون في التمييز وبامتياز !!

"التَمَيز" و"التَمييز" كلمتان تتشابهان في المبنى ولكن تختلفان في المعنى، فالفرق بين كلمتي "التَمَيز" و"التَمييز" في اللغة العربية هو حرف واحد زائد وهو الياء في كلمة "التمييز"، ولكن من حيث المعنى فشتان الفرق بينهما، فالتَمَيز وفقا لمعاجم اللغة العربية يأتي بمعنى التفرد، فنقول مثلاً تَمَيَّزَ الرَّجُلُ : أي اِمْتَازَ، اِنْفَرَدَ، أو تَمَيَّزَ القومُ : أي ساروا فى ناحية أَو انفردوا، و تميَّزَ الشَّيءُ: امتاز، اختلف عن سواه بعلاماتٍ فارقة, تميَّز بكذا: عُرِف به.


أما التمييز فهو يعني: الفَصْلُ، العَزْلُ، التَّفْرِيقُ، والتَّمْيِيزُ العُنْصُرِيُّ : نِظَامٌ تَنْهَجُهُ بَعْضُ الأنْظِمَةِ العُنْصُرِيَّةِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي حُقُوقِهِمْ وَوَاجِبَاتِهِمْ لاِخْتِلاَفِ أجْنَاسِهِمْ كَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ العُنْصُرِ أَوِ اللوْنِ أو الجِنْسِ أَوِ الدِّينِ أوِ الرَّأيِ السِّيَاسِيِّ أَوْ أَيِّ رَأيٍ آخَرَ. 


أما كلمة  بامتياز، فهي تعني المتفوِّق، من الدرجة الأولى.


والسؤال هنا: هل نحن في مصر متميزون بامتياز في التمييز بين البشر على أساس الجنس والدين والمركز الاجتماعي على كثير من الأصعدة؟ هل نحن لدينا تمييز طبقي وتمييز نوعي وتمييز طائفي بدرجة امتياز؟


الإجابة دون أدنى شك هي:  نعم.


قامت الدنيا ولم تقعد بسبب تصريح وزير العدل السابق المستشار محفوظ صابر والخاص بعدم إمكانية تولي ابن عامل النظافة مناصب قضائية، واستهجن البعض صدور مثل هذا التصريح الذي يتضمن بين ثناياه الظلم وعدم العدالة من وزير العدل، وهناك من اتهم الرجل بالعنصرية، ولم تهدأ الدنيا إلا باستقالة الرجل أو إقالته تهدئة للرأي العام الغاضب.


ومما لاشك فيه أن الرجل كان يُقر بما يحدث فعليا على أرض الواقع، ولكن تصريحه كانت تنقصه الحصافة، وكانت تعوزه الحنكة السياسية، وكان عليه أن يختار ألفاظه بعناية، وأن ينتقي عباراته بحرفية، وكان من الأفضل ألا يحدد مهنة بعينها، بل كان عليه التوضيح والإشارة لشروط المهنة التي يتحدث عنها.


 كما كان عليه أن يوضح أمرا آخر غاية في الأهمية مفاده أن حديثه لا يعني اقتصار الأمر على أبناء القضاة وأبناء الصفوة بل على الكفء الذي تتوافر فيه مقومات المنصب من علم وخلق وكفاءة، فأي وظيفة لها متطلبات مثل كشف الهيئة وكشف العيلة واللياقة البدنية والتقديرات المعينة الخاصة بكل وظيفة، ولكن لا بد أن تكون الكفاءة هي المعيار الأمثل لتولي الوظائف بغض النظر عن الفروق الطبقية والاجتماعية والدينية.


وتصريحات وزير العدل السابق جاءت مخالفةً للمادة 9 من دستور مصر، التي نصت على أن "تلتزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، دون تمييز"، وكذلك المادة 53 التي نصت على أن "المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو المستوى الاجتماعي، التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون".


كما خالفت تصريحاته المادة 21 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدقت عليه مصر، والتي نصت على أن "لكل شخص بالتساوي مع الآخرين حق تقلد الوظائف العامة في بلده"، فالدستور ومواثيق حقوق الإنسان تعطي الحق لكل مواطن أن يصل إلى أعلى المناصب، وأن لِكُلِّ إنْسَانٍ حَقُّ التَّمَتُّعِ بِكَافَّةِ الحُقُوقِ وَالحُرِّيَّاتِ دُونَ أيِّ تَمْيِيزٍ.


وأحداث التاريخ تؤكد أن هناك العديد من الشخصيات التي عملت في مهن بسيطة، وعلى الرغم من هذا تولوا مناصب كبيرة في بلادهم، فماسح الأحذية "لو? دا سيلفا" أصبح رئيساً للبرازيل بعد التنقل في عدة أشغال بسيطة منها، "عامل بسيط" في محطة بنزين، ثم "ميكانيكي"، ثم "بائع خضار"، ولكنه بعلمه ودراسته وشخصيته وإنسانية وصل لمنصب رئيس دولة.


وأيضاً الرئيس الأمريكي "ليندون جونسون" عمل في شبابه "جامع قمامة" و"ملمع أحذية" و"غاسل صحون". وأيضاً "جيرالد فورد" وزير العدل الأمريكى الذي كان يعمل فراشا، وعمل أيضا طباخاأ ومدرب كرة.


ويضاف إلى القائمة "ناثان ريس" الذي - اشتغل بنفسه وليس والده - جامع قمامة لكي يصرف على شهادته الجامعية إلى أن حصل على بكالوريوس مع مرتبة شرف في الأدب الإنجليزي من جامعة سيدني، وانتخب عضو برلمان الولاية عن حزب العمال وهو عنده 39 سنة، ثم أصبح بعد 10 أيام وزيرا لخدمات الطوارئ ووزيرا للمياه (حقيبتين وزارتين في آن واحد)، وبعد عام انتخبه حزبه ليصبح رئيس وزراء لولاية نيو ساوث ويلز أكبر ولاية فى استراليا من حيث عدد السكان والاقتصاد، ووفقا للتميز الطبقي الذي صرح به وزير "العدل" المصرى السابق، فإن أمثال "ناثان ريس" لا يصلح أن يكون قاضيا! ومن ثم لا يُمكن أن يصبح رئيسا للوزراء؟!


إن تصريح وزير العدل السابق فتح لنا الباب على مصراعيه لمناقشة قضية التمييز الطبقي والطائفي في مصر، ولكن مما يؤسف له أن كثيرين ممن انتفضوا ضد تصريح وزير العدل هم أنفسهم يمارسون تمييزًا من نوع آخر أشد ضراوة وقسوة، فما رأي المنتفضين في التجاهل والتنفيض وغض الطرف عن التمييز الطائفي على أساس الدين في تولي بعض المناصب، وأيضا التمييز النوعي على أساس الجنس؟


يعيش بيننا من يمارسون التمييز بكافة أشكاله، ففي مصر لدينا تمييز واضح ضد المرأة، وهناك وظائف لا يجوز للمرأة أن تتولاها، وأيضا لدينا تمييز واضح وفاضح ضد المسيحيين شركاء الوطن، فمثلاً على سبيل المثال وليس الحصر، هناك عرف سائد في قسم النساء والتوليد في جامعات مصر، بعدم تعيين المسيحيين كأساتذة في هذه الأقسام، ومن ثم يتم إجهاض أي طالب متفوق قبل حصوله على الدرجات العلمية التي تؤهله لذلك.


 ومن المفارقات الغريبة في هذا الأمر، أن رائد هذا العلم في مصر هو الدكتور نجيب محفوظ باشا، وهو مسيحي، ولم يتمكن حفيده من الدخول للقسم، وأن هذه السياسة بدأها قصر العيني، وانتقلت إلى باقي كليات الطب في جميع أنحاء الجمهورية، ولذا يضطر المسيحيّ إلى استكمال دراسته في الخارج، وهذه السياسة عرفا سائدا، وليس قانونا.


ومن المؤسف والمخجل أيضا أن العنصرية وصلت إلى منصة العدالة وفي المحاكم لدرجة أن هناك بعض القضاة الذين يرفضون شهادة المسيحيّ أمام المحكمة، هذا فضلا عن أنه لا يُسمح للمسيحي بتولي بعض الوظائف في الدولة، فبنظرة سريعة على الواقع الذي نعيشه نكتشف أنه لا يوجد رئيس جامعة مسيحي، وكذلك لايوجد محافظ واحد مسيحي في أي محافظة من محافظات جمهورية مصر العربية، وحتى عندما صدر قرار بتعيين محافظ مسيحي في قنا بعد 25 يناير 2011 حدث اعتصام وتم قطع طريق السكة الحديد لمدة 21 يوما، وقال أحد المتطرفين هناك: "عندما يصدر قرار بتعيين محافظ مدني مسلم سينتهي الاعتصام وتعود الحياة إلى طبيعتها"، وتساءل قائلاً: "لماذا تصبح قنا هي حقل التجارب لتعيين المسيحيين؟ لسنا حيوانات تجارب".


هذا تصريح لأحد رجال الدين في قنا، ولا يمكن أن يكون ما قاله وزير العدل السابق أشد عنصرية من هذا التصريح، إن مجتمعنا المصري لا يزال يعيش في مرحلة القبيلة ولم نتحول بعد لدولة مواطنة.


إن استقالة أو إقالة وزير العدل لا يُمكن أن تكون حلاً لمشكلة التمييز الطائفي والطبقي في مصر، نحتاج لأن تكون هناك على أرض الواقع عدالة اجتماعية، وأن يكون هناك شفافية وقواعد ثابتة لتمكين الشباب والمجتهدين وتعينهم في الوظائف الهامة بعيدا عن دهاليز الواسطة والمحسوبية والفساد والرشوة وغيرها من الأمور التي يندى لها الجبين، وإن كانت الحكومة المصرية جادة حقا في مكافحة التمييز، فعليها فورا إصدار قانون من مادتين، المادة الأولى: بطلان أي قرار ينطوي على تمييز بسبب الدين أو الجنس أو العرق أو المكانة، المادة الثانية: العقاب التأديبي والجنائي على من يُمارس التمييز، وكذلك يتحتم إلغاء طلب أي أوراق رسمية يكون الغرض منها تحديد الوضع الطبقي للمتقدم في وظائف النيابة وفي الكليات الحربية وفي كلية الشرطة، وغيرها، وبدون هذه الإجراءات العملية سنظل في بر المحروسة متميزون في ممارسة التمييز الطبقي والطائفي والنوعي بامتياز!!