التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 08:14 م , بتوقيت القاهرة

في "إقرث" الفلسطينية... حق العودة "للأموات فقط"

ينتظر الحاج الفلسطيني لبيب أشقر - البالغ من العمر 83 عاما - أن ينقضي أجله حتى يتمكن من العودة إلى قريته الأصلية (إقرث) التي هجِّر منها عام 1948، فهذه هي الطريقة الوحيدة التي يتمكن من خلالها وجميع سكان القرية من العودة إليها بعد أن حرمهم الاحتلال الإسرائيلي من دخولها منذ أكثر من 67 عاما، فيما سمح فقط للأموات منهم، لدفنهم في مقبرتهم الوحيدة بالقرية المهجرة.


وهجَّر الاحتلال الإسرائيلي جميع سكان "إقرث" الواقعة على الحدود الشمالية بين فلسطين ولبنان خلال أحداث النكبة، فيما هدم المنازل وكل شيء في القرية عام 1950، ولم يتبق من القرية سوى كنيسة.



وأقام سكان إقرث عقب عملية "التطهير العرقي" التي تعرضوا لها كلاجئين في عدة قرى ومدن في شمال فلسطين المحتلة، كما يتواجد غالبيتهم حاليا في قرية الرامة شرق مدينة عكا.


حكاية إقرث    


يعيش لبيب أشقر لاجئا مع أولاده وأحفاده في وطنه داخل قرية "معليا" في الجليل الأعلى المحتل، فيما ينتظر هو وغيره من السكان العودة إلى قريته وهو على قيد الحياة، بدلا من أن يعود إليها محملا على الأكتاف.


ويسترجع اللاجئ الفلسطيني لـ"دوت مصر" ذاكرة قريته التي لم تزلها السنين المتعاقبة، حيث يقول: "في نهاية عام 1948 اقتحمت العصابات الصهيونية القرية بحملة عكسرية كبيرة وسيطروا عليها، وأخرجونا منها تحت تهديد السلاح بذريعة أنها منطقة حدودية، ثم نقلونا بواسطة سيارات الجيش إلى منطقة الرامة شرق عكا، ووعدونا بأننا سنعود إلى القرية بعد أسبوعين ريثما تستقر الحالة الأمنية على الحدود".


ويضيف: "مرت الأيام ولم نعد كما وعدنا الاحتلال، ومانزال ننتظر حتى هذه اللحظة انقضاء الأسبوعين حتى نعود!، استمر سكان القرية حتى عام 1950 مطالبين بالعودة تنفيذا للوعد الذي قدم لنا لكن دون جدوى، فهم خدعونا واستغلوا ضعفنا مقابل قوتهم العسكرية والعددية، وسيطروا على قريتنا وهدموا كل شيء فيها".


وعلى الرغم من حصول سكان القرية، بحسب "أشقر"، على قرار من المحكمة العليا الإسرائيلية للعودة إلى قريتهم في عام 1954، إلا أن الاحتلال يرفض ذلك بذريعة أنها منطقة عسكرية وتقع على الحدود، ليبقى القرار حبرا على ورق، هنا يتسائل اللاجئ الفلسطيني والدموع لم تفارق عينيه: "أين هو حكم العدل والعدالة؟، ولماذا نطرد من أرضنا ونحرم منها؟، وهل علينا كل يوم أن نبكي ونحن نرى قريتنا على بعد النظر، بيما نحن غير قادرين على لمس ترابها".


 



ويوضح "أشقر" أن الاحتلال منع سكان القرية من دخولها أحياء وأمواتا حتى عام 1972، حيث تواجهوا بعد ذلك إلى وزارة الأديان الإسرائيلية للسماح لهم بدفن أمواتهم في مقبرة القرية، ووافقت إسرائيل على فتح المقبرة وترميمها ودفن الأموات فيها، مشيرا إلى أن سكان إقرث واجهوا مشكلة في دفن أمواتهم في القرى التي لجؤوا إليها، حيث أن كل قرية لها مقبرة خاصة.



وعلى الرغم من مرور أكثر من 67 عاما على تهجير المسن الفلسطيني من قريته، إلا أنه مايزال يحمل أملا كبيرا في العودة إليها، كما ينقل ذلك إلى أولاده الخمسة وأحفاده الـ15، فيتحدث لهم دوما عن قريته وتراثها ومعالمها، بعدما أزال الاحتلال معالمها عن وجه الأرض.


ويستطرد "أشقر": "أحفادي يحلمون بالعودة إلى إقرث مثلي تماما، حيث نزور القرية بين الفينة والأخرى، ونصلي في الكنيسة التي حولها الاحتلال إلى خرابة، فأشرح لهم معالم القرية رغم أنها هدمت، واسترجع ذاكرتي فيها، حتى لا يندثر حق العودة إلىها مع تعاقب الأجيال".


وتبلغ مساحة قرية القرية، بحسب أشقر، أكثر من 24 دونما، ويوجد بها 12 خربة، وكان يدير شؤونها مختار للقرية ولجنة محلية، كما كان السكان يعتمدون على الزراعة كمصدر رئيس للعيش، حيث كانت موسمية في فصلي الشتاء والصيف، بينما القمح هو أكثر ما تشتهر به "إقرث"


معاناة واعتداءات


قرار السماح لسكان "إقرث" بدفن الأموات في مقبرة قريتهم الأصلية وإن كان يمنحهم فرصة في دخول أرضهم ولو لوقت قصير، إلا أنه يتسبب لهم بمعاناة أخرى، حيث يقول رئيس لجنة أهالي القرية، إبراهيم عطا الله، لـ"دوت مصر"، :"نواجه معاناة في دفن الأموات حيث لا يسمح لنا بالوصول إلى مقبرة القرية إلا سيرا على الأقدام، وعلينا أن نسير مسافة 40 كيلومترا، وهذه المسافة تعد صغيرة بالنسبة لسكان إقرث الذين لجئوا إلى مدينة بئر السبع التي تبعد ضعف هذه المسافة عن قريتنا الأصلية".


ويستطرد: "جميع سكان إقرث يشاركون واجب الدفن والعزاء عندما يتوفى أي مواطن من سكان القرية الأصليين، ويتوافدون جميعهم إلى مقبرة إقرث، وهنا تكون فرصتهم الوحيدة في القدوم إلى قريتهم التي شوه الاحتلال معالمها، وسلب الاستيطان غالبية أراضيها".



ويؤكد "عطاالله" أن الاحتلال صادر أراضي القرية وضمها إلى مستوطنات مقامة حولها، فيما يمنع المستوطنون السكان من دخول قريتهم، ويطردون الشباب المعتصمين داخل الكنيسة، وتعترض قوات الجيش  الإسرائيلي السكان خلال محاولتهم دفن الأموات.


وتبلغ مساحة مقبرة "إقرث" 3 دونمات، وتم توسعتها من السكان لتصل إلى 5 دونمات، حتى تتسع لعدد الأموات من سكان القرية الأصليين، وعن أشكال المعاناة التي يتعرض لها سكان القرية يقول رئيس لجنة أهالي إقرث: "إن الكنيسة الوحيدة المقامة على رأس تلة تبعد عن الشارع الرئيسي 500 متر، وعلى الرغم من ذلك يمنعنا الاحتلال من دخوله للوصول إليها، ما يدفعنا لسلوك طرق وعرة".
 


وبحسب عطاالله، تخلو "إقرث" من ملامح الحياة، حيث تم تهجير جميع سكانها إلى قرية الرامة، وبعد أن فقدوا الأمل بالعودة إلى إقرث، بدأوا بالتوزع على 18 قرية ومدينة شمال فلسطين المحتلة، حيث أن أكثر الأماكن التي يتواجدون بها حاليا هي حيفا، والرامة، وكفر ياسين، إلى جانب شفا عمرو، ومعليا، وقرى أخرى.


ويستكمل رئيس لجنة الأهالي: "إن إسرائيل كانت تهدف ضمن مخططها أن ينسى السكان وأجيالهم المتعاقبة قريتهم وحقهم في العودة إليها، حيث أطلق  رئيس وزراء إسرائيل عام 1948 ديفيد بن جوريون شعار (الكبار يموتون والصغار ينسون)، ولكن نحن أثبتنا له العكس، حيث ننقل تاريخ وتراث وحكاية القرية إلى أحفادنا وجميع الأجيال، ونخلق تواصلا بينهم وبين قريتهم".



وتعد "إقرث" من أقدم وأعرق القرى في الجليل الغربي، حيث ذكرت من بين 19 قرية احتلها فرعون مصر، كما استوطن بها الرومان لتصبح بعدها تابعة لقضاء صور، وعرفت أيام العهد الصليبي باسم "أكرف"، وفي العهد العثماني بالاسم "إقرط"، وفي فترة الانتداب البريطاني سميّت أيضا باسم "إقرت".