في العباسية.. أبطال ومسوخ
مع غروب شمس يوم الجمعة الرابع من مايو عام 2012، وفي مشهد غير تقليدي، التقطت كاميرات الفضائيات، مشهد احتفال عدد من جنود القوات المسلحة بفرحة بالغة، وسط أعداد من المواطنين بمنطقة العباسية، لنجاحهم في تطهير المنطقة المحيطة بوزارة الدفاع من إرهابيي التيار الإسلامي، ورفاقهم من التيارات الثورية المتضامنة معهم، وإحباط محاولتهم اقتحام وزارة الدفاع المصرية، ومن ثم سيطرة مجموعات من السفهاء، على مركز قيادة الدولة وقتها ومقر قيادة القوات المسلحة.
فما الذي يدعو جنود الشرطة العسكرية وبعض المواطنين للاحتفال؟! وما طبيعة هذا النصر الذي حققوه وسط القاهرة؟!
محترفو التخريب الثوري يتهكمون سخريةً من رقص جنود الشرطة العسكرية واحتفاء المواطنين بهم، ويتناقلون مشاهد الاحتفال باعتبارها حدثا يبعث على السخرية.. في هذا التوقيت كان دعم المواطن للقوات المسلحة أمرا يبعث على الارتياب والشك في انتمائه، بل والسخرية من سذاجته، من قبل حاملي الصكوك الثورية متصدري المشهد فى حينها، أما دفاع المواطن عن جهاز الشرطة فهو كفيل باتهامه بالجنون أو الخيانة!
الخيانة لمن؟! لا يهم..
الأيام السابقة للجمعة 4 مايو تشهد تصعيدا مريبا، شعبية أو بالأحرى استعراض قوة وبلطجة من حازم صلاح أبو إسماعيل، وأنصاره "الحازمون" أو الإرهابيون الصرحاء الآن، تزداد قوتهم وسط حماية إعلامية مريبة، دعمت كل من يعمل على هدم مؤسسات الدولة أو مهاجمتها أو الاحتكاك بجنود الجيش والشرطة، وفي نفس الوقت تهاجم قوات الشرطة والجيش إن لم تؤد واجبات الحماية اللازمة للمؤسسات أو للمواطنين أو حتى للمخربين أنفسهم، وسط عبارات مضللة عن مثالية التعامل الشرطي العالمي، ومواثيق حقوق الإنسان وغيرها، وهو ما ثبت كذبه بمشاهد معاملة المخربين والمتظاهرين في الولايات المتحدة الأمريكية.
المطبخ السياسي بين قوى يناير المتحالفة يعمل على تقسيم التورتة، فالاقتراب من وزارة الدفاع يزداد، وآمالهم بسقوط المجلس العسكري تنمو، والجيش نصب المتاريس لفصل المعتصمين عن مقراته المركزية الكبرى، وبدا فى وضع دفاعي، زاد من سيولة لعاب المتحفزين.
فيخرج عبد المنعم الشحات بتصريح عن اتفاق بين التيارات الإسلامية بأن يكون الحكم لعبد المنعم أبو الفتوح، وتكون الحكومة للإخوان المسلمين.. والشيخ حسن أبو الأشبال يكفّر قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ويطالب الشعب بإعلان الجهاد ضده علنا على فضائية "الحكمة" الدينية، رغم وجود تسجيل مصور سابق له ينفي تماما جواز الخروج بالقول أو بالفعل على الإمام الحاكم، ولكنّه التيار الإسلامي خير من استحل الكذب.
مسيرة لمحمد الظواهري تتجه للعباسية، يتقدمها ملثمون من شباب التيار الإسلامي.. شقيق زعيم القاعدة يحاصر وزارة الدفاع المصرية، ومن المؤكد أن شقيقه على دراية وتواصل بما يجري هناك.. باختصار القاعدة لها رجال يتحفزون لاقتحام وزارة الدفاع المصرية، الإعلام يتناول باعتيادية مريبة!
أنباء عن وجود ما يُسمى بالحرس الثوري المصري في محيط ميدان العباسية، وصفحات بمواقع التواصل الاجتماعي تتداول أخبار هذا التنظيم ودعواته وتوعداته.. مسيرة لعبد المنعم أبو الفتوح مساء الأربعاء 2 مايو "ذكرى مقتل بن لادن" من غمرة إلى العباسية، يُثبت حضورا ونضالا وثورية، ويتراجع عائدا إلى بيته بسبب التجمهر الشديد حوله.
آمال الأغوات تتزايد، والجميع ينتظر الجمعة التالية 4 مايو حيث المليونيات الأسبوعية، فتكون خير معين على اقتحام وزارة الدفاع، وقد أطلق عليها الإرهابيون "جمعة الزحف".. صلوات القيام الليلية لا تنقطع بشوارع العباسية، ولا ينقطع فيها الدعاء على المجلس العسكري.
حازم صلاح أبو إسماعيل السبب الرئيسي للاعتصام، بعد استبعاده من انتخابات رئاسة الجمهورية، لم يظهر بين المعتصمين، وظل بعيدا عن المسؤولية المباشرة كعادته.. تلويح بالعنف بضرب مجموعات سلفية لكمين تابع للجيش قرب بنى سويف، لتهريب محتجزين تم ضبطهم بأسلحة وذخيرة.
تحرشات لفظية واستفزازات مدروسة من شباب وفتيات القوى الثورية، موجهة لقوات الجيش تحمل إهانات بالغة، وتطالبهم بترك الخدمة وعدم صد هجومهم، وتهين قادتهم وتحط من شأنهم، بهدف تحطيم معنوياتهم.. في المساء تراصت قوات وآليات الجيش في العباسية بصورة شهيرة، أقرب لتراص جنود الفراعنة في النماذج الخشبية المحفوظة بالمتحف المصري.
الجمعة 4 مايو كاميرات الجزيرة تستعد لنقل الحدث المنتظر.. تصاعد وتكثف أعداد المحاصرين لوزارة الدفاع، شباب مقنعون بلثام أو بقناع "فانديتا" يستخدمون نبالا مؤكد أنها ليست كنبال الصغار، وآخرون بالطوب وبعضهم بالخرطوش، وبدأت الاشتباكات، وظهر الإصرار على إزالة الحواجز واقتحام وزارة الدفاع، بعد قليل قطعت السلطات البث المباشر عن الفضائيات، وفي أقل من عشر دقائق تفرق المعتصمون بعد أن تم القبض على أكثر من ثلاثمائة منهم.. وهرب الباقون وبعضهم عاد للتحرير، ملاذهم الآمن.
ظهر اللواء مختار الملا بوجه حاسم ونبرة قوية، وأعلن حظر التجول بمحيط ميدان العباسية ومقرات الجيش الرئيسية، ووصف المعتدين بمثيري الشغب.
بعد شهرين ظهرت بعض التحليلات تقول: بأنه لو نجح بعضهم في اقتحام أسوار الوزارة وساد الهرج والفوضى وانطلقت الشائعات بسقوطها، لكان لإسرائيل الحق التام فى اجتياح سيناء ولأقدمت في خطوات احتلالها، لسقوط السلطة المركزية الأخيرة في مصر، بعد إعلانها إسلامية صريحة.
انتبه رفاق الإثم أن أملهم قد ضاع، وتوقعاتهم بسقوط المجلس العسكري ووزارة الدفاع قد تبخرت، وبعد أن مضى كل منهم يثبت حضورا هناك، جبنوا ثانية فالظواهري يتراجع خسة ويصرح: أن زيارته للمعتصمين كانت بغرض حفاظهم على أرواحهم!. وأبو الفتوح بتلون معتاد يطالب بمحاكمة الذين حاولوا اقتحام وزارة الدفاع، ومحمد سليم العوا يعتبر اقتحام "الدفاع" خيانة عظمى.
أبو إسماعيل أفلت بنفسه منذ تصاعدت الاشتباكات فى 2 مايو بحجة حالته الصحية التي لا تسمح له بالاعتصام، وصرح: بأن المعتصمين لم يجتمعوا لأجله، ولكن من أجل قضايا عامة ومظالم سياسية، وألقى بتبعة الأمر على الإعلام المضلل، وأنه يمثل موضوعا واحدا مما يطرحه المعتصمون.. وظهر في مداخلة تليفونية لقناة "الحياة" يتحدث بتعال شديد وتكابر من يعلو أي سلطة، أنه لن يناقش أي اتهامات وجهت إليه، وأن أمر الاستدعاء للتحقيق يجب أن يصل لأعضاء المجلس العسكري!
أما حمدين صباحي، فكعادته في الدفاع عن المخربين، طالب بالدفاع عن المقبوض عليهم في محاولة اقتحام وزارة الدفاع.
فشلت تجربة الثورة المصغرة التي صعد الإسلاميون والثوريون أحداثها، والتي كانت كسابقاتها تنتظر بيانات الدعم الأوروبي والأمريكي، وظهر الغيظ جليا وبدأ التلويح بالقوة والعنف، ردا على ما جرى يوم الجمعة 4 مايو، فوقع تفجير قنبلة بجوار مصنع للسكر ببلقاس، أسفرت عن مصرع مواطن وإصابة ثلاثة مواطنين في الجمعة التالية 11 مايو، قبلها بيوم تم ضبط لحوم خيول معدة للتوزيع على المواطنين تحمل شعار منتجات القوات المسلحة، يتم توزيعها بمنفذ تابع لحزب الحرية والعدالة بدمياط. وفي 13 مايو تم ضبط قنبلة بتايمر بسيارة مسروقة بطريق القاهرة السويس.
وفي ذات اليوم كان مجلس الشعب القندهاري يقوم بدورٍ مواز، فرفض بعض أعضائه قبول قرض من البنك الدولي لإصلاحات مشاريع الصرف الصحي بمصر، وصرحوا: بأن الغرق فى الصرف الصحي أهون من قبول القرض وأكل الربا ودخول جهنم، مما جعل محمد عبد العليم داود، وكيل مجلس الشعب يرفع الجلسة التي ترأسها بديلا للدكتور سعد الكتاتني.. ولم يكن أمر مجلس الشعب سوى محاولة مستمرة لإبراز فشل الحكومة والدولة في تسيير الأمور.
القوى الثورية لم تتوقف عن العمل لصالح الإسلاميين والشحن من أجل استغلال الجماهير، فحمدين صباحي ظهر في برنامج "موعد مع الرئيس" مع "محمود سعد" على قناة النهار، مساء الأربعاء 16 مايو، ليؤكد أنه يؤيد النزول للتظاهر إذا نجح أحد المحسوبين على النظام السابق فى الانتخابات! في حين صرحت بثينة كامل قبل يومين من الانتخابات الرئاسية، خلال الجلسة الافتتاحية لجمعية مصريات من أجل التغيير، في 21 مايو: أن جهاز الأمن الوطني يعمل لصالح الإخوان المسلمين، كما كان يعمل لصالح حازم أبو إسماعيل بالسماح له بالدعاية في المساجد.
حتى استبد الغيظ بهم، فأعلن د. صفوت حجازي صراحة يوم 14 مايو خلال مؤتمر اللجنة الشعبية لدعم مرسي رئيسا للجمهورية بالإسكندرية: نعم نريد التكويش على كل شيء لأننا نريد تطبيق شرع الله، وهدد د. أحمد شفيق بأنه لن يصل للحكم ما بقي حيا، ودعا إلى الموت من الجوع في سبيل منع الليبراليين والمدنيين والشيوعيين من الوصول للسلطة، معتبرا انتخاب محمد مرسي واجبا على كل مسلم؛ لإعلاء عزة الإسلام!
وقبل الانتخابات بأربعة أيام في 19 مايو، صرح أبو الفتوح في مؤتمرنظمته الدعوة السلفية بالإسكندرية: أن الشريعة مطلب شعبي، وأنه ابن للمشروع الإسلامي، القائم عليه مئات العلماء، ولن يستطيع المتطرفون العلمانيون إيقافه.. كما اعتبر أن ارتفاع شعبية أحمد شفيق في استطلاعات الرأي بداية لتزوير قادم.
أُعلن الأمر صراحة، ولكن كان وما زال بمصر، متآمرون يهونون من شأن خطر عصابات الإجرام، ويوفرون لهم الغطاء والدعم وفرص التواجد، ويتعاونون معهم ما استطاعوا. ولم تكن محاولة اقتحام وزارة الدفاع سوى استعراض قوة لتقصير الطريق دون انتخابات أو مجهود سياسي شكلي لا يحملون له أدنى اقتناع أو احترام، سقط خلالها شهداء ومصابون سأفرد لهم حديثا وحدهم فى مقال قادم.. فهؤلاء الأبطال حموا حصن الجيش المصري من السقوط، وكان لهم الحق في الاحتفال وسط قلة من المواطنين قدرتهم حق قدرهم في حينها، وقدرت بطولاتهم ودورهم في حماية وطن بأكمله من السقوط والتلاشي فى مايو 2012.