التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 06:25 م , بتوقيت القاهرة

جهاز كشف الكذب العلماني

يوم السبت الماضي كانت ذكرى تحرير سيناء، وأغلبنا ينتظر هذه المناسبة بالذات ليشاهد الفيلم الرائع إعدام ميت، الذي تذيعه قنوات عديدة على مدار ذلك اليوم. وأنا واحد ممن ينتظرون الذكرى ليشاهدوا الفيلم، لكني للأسف لم أستطع هذه المرة مشاهدته بالكامل ولم أشاهد - بالمصادفة - سوى مشهد تدريب المخابرات العامة المصرية لضابطها على كيفية اجتياز ومخادعة جهاز كشف الكذب.. ومن ذلك المشهد جاءتني فكرة هذا المقال.


وبما أن طلاب الإعدادية بالمنوفية يخترعون كل يوم اختراعات جديدة، فلماذا لا أجرب أنا أيضا حظي في اختراع جهاز لكشف الكذب العلماني؟؟


أنا علماني حتى النخاع، وبالتالي لن أخترع جهازا لكشف عيوب العلمانية ومساوئها. فالعلمانية في رأيي هي النظام الإنساني الوحيد الذي يكاد يخلو من أي عيوب أو نواقص إذا ما تم تطبيقه في الشأن العام بشكل سليم. سأحاول هنا اختراع جهاز لكشف كذب بعض مَن يزعمون أنهم علمانيون وأنهم يفهمون العلمانية جيدا وأنهم يتمنون تطبيقها في مجتمعنا لحل مشكلاته، بينما عشرات التجارب والاختبارات والمواقف على مدى السنوات الأربع الماضية أثبتت أنهم ليسوا علمانيين بحق، وليسوا مدركين لمعنى العلمانية بحق، وليسوا على قدر من الشجاعة والاتساق، يجعلهم قادرين بحق على نشر قضية العلمانية والترويج لها والدفاع عنها.


ولأدخل في صلب الموضوع، دعوني أحدد سبع متلازمات وسبعة تناقضات رئيسية يمكنك رصدها بسهولة في أدعياء العلمانية الذين يؤذون القضية العلمانية ويضربونها في مقتل وهم يحسبون أنهم علمانيون بحق:


1- متلازمة النقاب:


لا اعتراض لنا من حيث المبدأ على الحجاب طالما كان حرية شخصية للفتاة غير مفروضة عليها، وطالما كانت التي ترتديه هي فتاة يافعة أو امرأة وليست طفلة، ولن نزهق من تكرار أن الحجاب هو مجرد قطعة قماش ومجرد جزء من ملبس الأنثى وليس معيارا لأخلاقها أو قيمتها أو لأي شيء معنوي ذي بال.


وعندما لاحت دعوات التظاهر في ميدان التحرير من أجل خلع الحجاب بوجه عام، قلنا إنه من الأفضل أن تكون الأهداف المُعلنة للتظاهرة هي تشجيع الفتيات المجبرات على الحجاب على خلعه، ومنع تحجيب الأطفال، والدعوة لإصدار قانون يمنع ارتداء النقاب. والهدف الأخير - منع النقاب بقوة القانون - كشف عن كذب بعض أدعياء العلمانية، فراحوا يقولون إن منع النقاب فيه اعتداء على الحرية الشخصية للفتاة المنتقبة بإرادتها.


 ووجه الكذب والادعاء العلماني هنا هو أن النقاب لا يمكن أبدا أن يكون حرية شخصية، لا في الوقت الحالي الذي تتصاعد فيه حدة التفجيرات الإرهابية التي يستخدم منفذوها النقاب كأداة للتخفي من كاميرات المراقبة، ولا في أي وقت آخر. فالنقاب ضد أبسط حقوق المجتمع وأفراده في أن يعرفوا كُنه الأشخاص الذين يتعاملون معهم، وأن يطّلعوا على نظراتهم وملامحهم، ولا يمكن لعلماني حقيقي أن يقول إن منع النقاب في الأماكن العامة هو اعتداء على الحريات، لأن العلمانية لا تعترف بالحرية الشخصية التي تضر بعمليات التواصل المفتوح بين الأفراد وتضر بالتالي بمصلحة المجتمع ككل على طريقة معضلة السجينَين لعالم الاقتصاد والرياضيات جون ناش.


2- متلازمة الرافال:
العلمانية تؤمن باحترام التخصص العلمي. صحيح أنها تشجع الأفراد على الاطلاع الحر خارج مجالات اختصاصهم، لكنها لا تعترف بالشخص الخبير في كافة المجالات بلا استثناء. وهناك فرق بين أن يكون المرء صاحب رأي opinionated في مجال ما وبين أن يكون صاحب معرفة informed علمية فيه، ولا شك أن الأولوية في المرجعيات تكون للأخير كلما كان الموضوع محل النقاش متخصصا ومعقدا.


وفي الفترة الأخيرة خرج علينا بعض أدعياء العلمانية بفتاوى حاسمة جازمة هزلية في مجالات هي أبعد ما يكون عن مجالات اختصاصهم، فرأينا العلماني دارس الآداب أو القانون الذي يفتي في معدلات استهلاك الطائرة الرافال للوقود، ويسخر من مصطلحَي التكريك والحفر الناشف، ويجزم بأن الفوسفات يتحول إلى يورانيوم في الماء، وغيره وغيره. والحقيقة أن هذا الشخص هو مجرد مُدعٍ للعلمانية ولا يؤمن بأحد أبسط مبادئها: مبدأ التخصص العلمي.. رغم أنك قد تجده في سياق آخر يستخدم واقعة تأبير النخل في يثرب كدليل على أن أُولي العلم فقط أحق بالفتوى العلمية المتخصصة.


3- متلازمة المقال:
جريدة "المقال" هي الجريدة اليومية العلمانية الورقية الوحيدة التي تصدر في مصر الآن، وهي جريدة ذات سقف حرية عالٍ في نداءاتها العلمانية وفي فتحها النقدي لمخازن التراث المهترئ، ولا شك أن صدورها وانتظامها شيئان يثلجان صدر أي علماني حقيقي، وأن دعمها واجب على كل مَن قال أنا علماني. لكنك تجد بعض أدعياء العلمانية يهاجمونها ويسخرون منها ويقاطعونها وينكرون عليها كل حسناتها لمجرد أنها دافعت عن حق الفنان محمد منير في أن يقوم بمراجعات لمواقفه السياسية أو في أن يكون له رأيه السياسي غير الثوري ولمجرد أن الجريدة سعت لإقرار مبدأ الفصل بين تقييم فن الفنان وبين موقفنا من رأيه الشخصي، رغم أن مبدأ الفصل بين الكيانات هو لُب العلمانية وفكرتها المحورية.


4- متلازمة التفكير الجانبي:
التفكير خارج الصندوق للبحث عن حلول إبداعية للمشاكل المجتمعية التقليدية هو أحد الآليات الرئيسية التي تعتمد عليها المجتمعات العلمانية لتكتسب المرونة والدينامِيّة، وفي عمليات التفكير الحانبي خارج الصندوق تلك لابد أن نتحلى كعلمانيين بقدر عالٍ من المرونة والتفتح والبراجماتية والبُعد عن الحُكم القيمي أو الحُكم الساخر على كل الأشياء.


لكن عندما طُرح موضوع تقنين الحشيش للنقاش القانوني والعلمي التخصصي على نطاق ضيق - لولا أن القنوات الفضائية وسَّعت دائرة النقاش وأفسدته وشنَّجته - وجدنا بعض أدعياء العلمانية يعارضون الفكرة معارضة حادة على أساس قيمي لا علمي ولا موضوعي، والغريب أن بعض هؤلاء الأدعياء يتشدقون في مجالات نقاش أخرى - مثلا - بتفتُّح الحزب الديمقراطي الأمريكي الذي كلما تولّى رئيس منه حُكم البيت الأبيض كلما قطعت بحوث الاستنساخ والخلايا الجذعية أشواطا أبعد، برغم ما يحيط بتلك البحوث من إشكاليات أخلاقية مثيرة للجدل.


5- متلازمة رصد:
صفحات مثل رصد والأزهر اليوم هي صفحات إخوانية بوضوح، ولم تعد تلك الصفحات تداري انتماءها الصريح للإخوان الإرهابيين. وعندما تجد علمانيا ينشر أخبارا وموضوعات من صفحات كتلك برغم كل ما تحتوي عليه من أكاذيب ومن معاداة لفكرة الدولة المدنية ودفاع عن شرعية وهمية لرئيس ديني من تيار إرهابي، فاعلم بسهولة أنه من أدعياء العلمانية.


6- متلازمة وحدة العدو:
الماء والزيت لا يختلطان، وكذلك العلماني والثيوقراطي. في الستينيات رفض أغلب الطلاب الشيوعيين مشاركة طلاب الإخوان مظاهراتهم ضد عبدالناصر، ولم يقل الشيوعيون وقتها إن وحدة العدو مرحليا مبرر لتنسيق الجهود. لكنك الآن تجد بعض الاشتراكيين الثوريين - مثلا - يشاركون الإخوان فعالياتهم ويدافعون عنهم ويبررون لهم ويجمّلونهم، إيمانا منهم بأن وحدة الهدف - إسقاط النظام - ووحدة العدو - الرئيس صاحب الخلفية العسكرية - تبرران التعاون المرحلي على الأرض مع تيار ديني لا يؤمن بالدولة المدنية ويحتقر الشيوعيين ويشيطنهم وله تنظيم دولي ذو برنامج غامض وتحالفات إمبريالية وأهداف متعدية لحدود الدولة. ولتثق في أن هؤلاء الذين يقبلون بهذين المبررين ليسوا علمانيين حقا.


7- متلازمة الأميبا:
العلمانية لا تؤمن بنصوص ثابتة مقدسة في الشأن العام ولا بحلول دائمة ودوجمات غير قابلة للمراجعة. العلمانية تؤمن بالحل الأرضي المرن لمشاكل الأرض، وكل حلولها لتلك المشاكل حلول وضعية تستند إلى المبدأ العلمي المتسلسل: الفرضية، التجربة والخطأ، الاستنتاج، التطبيق، المراجعة. لكن بعض العلمانيين أصابت عقولهم دوجما الأميبا أحادية الخلية التي تعتبر المراجعة خيانة وكُفرا وتعتبر النقد الداخلي شقا للصف مهما تكشّفت على الأرض حقائق جديدة. مرة أخرى، ثق أن هؤلاء ليسوا علمانيين بحق، لأن العلمانية لا تؤمن بالدوجما في حل المشكلات العامة ولا تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة.


وفي مقال تالٍ نستكمل اختراع الجهاز بتحليل أهم مسببات هذه المتلازمات التناقضية المؤلمة.