التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 05:23 م , بتوقيت القاهرة

الطريق إلى عاصفة الحزم: 5- مصر

منذ توقيع معاهدة السلام في 1979، ودور مصر الإقليمي آخذ في التراجع. مياه كثيرة جرت تحت الجسر منذ ذلك الحين، وعلى مصر إن أرادت أن يكون لها دور إقليمي أن تواجه الواقع الصعب، طائفيا، وثقافيا، وسياسيا، واقتصاديا واستراتيجيا.

سيختلف هذا المقال إذن عن سوابقه، تلك كان غرضها التذكير بالمتغيرات الإقليمية السياسية والثقافية ذات الصلة، منذ 1979 حتى الآن. سنتخيل مصر بلدا تخرج من كهف، تفرك عينيها من مرحلة كمون، ثم تسأل نفسها عدة أسئلة لكي تقرر كيف تتصرف. ستستسهل أن تعترض على هذا الخيار أو ذاك، سنتجاهل هذه الاعتراضات، لأن النفي لا يبني سياسة، بل تبنيها الإجابات:

1- ما هي تحالفاتنا المقترحة؟

انظري إلى هذه الخريطة، احذفي ما تشائين، استخدمي شعاراتك كما تريدين، صفقي لنفسك على هذه البطولة وتلك الممانعة كما تريدين، لكن في النهاية أجيبينا، ما هي الدول التي تريدين التحالف معها؟

لدينا أربعة اختيارات رئيسية، الترتيب لا يدل على الأفضلية، لكن يمكنك طبعا أن تضيفي خيارا خامسا وسادسا

الأول: أن تلتزم مصر الحياد

الثاني: أن تصطف إلى جانب الحوثيين وإيران ومحور الممانعة السوري الحزب إلهي

الثالث: أن تتحالف مع دول الخليج.

الرابع: أن تبني تحالفا منفردا مع إسرائيل

في ضوء اختياراتك، ننتقل إلى السؤال التالي:

2- ما هي العواقب المحتملة؟ هذا يعني هي المكاسب المحتملة، وما هي الخسائر المحتملة، اقتصاديا وأمنيا.

مهما كان الاختيار، لن يكون أبيض مقابل أسود، بل سيكون في كل منها مزايا وعيوب. سنفترض أنك بعد أن أدركت المكاسب والخسائر، في أي خيار، أنك وازنت بينهما واخترت الاختيار الذي تفوق مكاسبه خسائره. وهنا ننتقل إلى السؤالين الثالث والرابع:

3- ما هي أهدافك الاستراتيجية بموجب هذا الاختيار؟

4- كيف تؤمنين قدرتك على الصمود في وجه العوائق حتى تبلغي هذا الهدف؟

حين تنتهين من الإجابة على هذه الأسئلة سيكون لديك فكرة، رأي مبسط، حول المسار الذي ترينه الأفضل. فعلت أنا هذا أيضا وكتبت مقالي.

اختيارات الكاتب في مقال

كلفة تخلي مصر عن دول الخليج كبيرة، ولا سيما من الناحية الاقتصادية. هذا واضح ولا يحتاج إلى شرح وبيان. لكنها كبيرة من الناحية الاستراتيجية أيضا، لأنها ستترك مصر بلا أفق سياسي. مصر لا تستطيع بناء تحالف مع إيران والحوثيين ومحور الممانعة لأنها لا تشاركه أيا من أهدافه الاستراتيجية. ثم إنها لاتستطيع أن تنكفئ على نفسها لأنها لا تملك حاليا اكتفاء اقتصاديا. أما بناء تحالف منفرد مع إسرائيل، حاليا، في ظل أجواء عدم الاستقرار تلك، وفي ظل الوضع الاقتصادي والسياسي والثقافي الذي نعيشه، فليس أمرا سهلا.

هل يعني هذا أن الأمر محسوم؟ لا. التحالف مع الخليج له مكاسب. نعم. ولكن ينبغي على مصر أن تدرك مخاطره أيضا. وهي مخاطر أمنية في الأغلب. إذ الوضع الداخلي لم يستقر تماما، وهذا شرط للدخول في معارك طويلة كتلك التي يبدو أن المنطقة لن تستطيع تجنبها.

لاحظي أنني أتحدث في السياسة بطريقة براجماتية. ليس هناك كتاب اسمه كتاب البراجماتية ينقل البراجماتيون منه. بل هو منهج تفكير يعتمد على مظنة تحقيق أكبر قدر ممكن من النفع الحقيقي للناس، من تحقيق القيم "النافعة". كما يتحسب للعوائق بطريقة منطقية، ويضع خطة لابتلاعها، وتحمل لكماتها، ومواصلة المباراة. بمعنى التفكير المنطقي بعيدا عن الشعارات المحفوظة.

لدينا إذن الخطر الأمني. هذا واحد.

اثنان. الخطر الآخر متعلق بطبيعة الجنود الذين سيشاركوننا المعركة. تلاحظين شخصا اسمه جمال خاشقجي يغمز ويلمز في مصر. ويتودد إلى الإخوان. هل سألت نفسك لماذا؟ لا. ليس لخلاف بين السعودية ومصر على ما أعتقد. إنما لأن السعودية تحتاج بشدة إلى الإخوان المسلمين. تحتاج إليهم لمواجهة الحوثيين في اليمن. والأهم من ذلك، وهذا هو الهدف الحقيقي من المعركة الحالية، في سوريا.

لن تتوقف الدول العربية الخليجية حتى تكسر الهلال السياسي الإيراني. وهي لن تستطيع أن تفعل ذلك في العراق. قد تدعم زعيما عالمانيا متوازنا كإياد علاوي لا يناصب العرب العداء. وهو ينتمي إلى أسرة شيعية، لكنه بعثي سابق، وأمه من عائلة لبنانية كبيرة.

الفرصة الأقرب والأهم لكسر الهلال الإيراني هي سوريا. التركيبة السكانية هناك تساعد على ذلك كما شرحت في مقالات سابقة. كما أن عدد الدول التي لها مصلحة في "فك" ارتباط سوريا بإيران أكبر. تركيا وأمريكا وربما قطر، إلى جانب السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة طبعا.

قلت إن هذا خطر يجب أن نتحسب له لأنه سينفخ الحياة في جماعة الإخوان المسلمين التي تتسبب في قلاقل داخل مصر. وفي قلاقل على حدود مصر. السؤال السياسي التالي إذن: هل يمكن لمصر استيعاب هذا الخطر؟

نعم، يمكن. لا، لا يمكن. كيف؟

لا مكسب بلا مغامرة. إيران حققت كل تلك المكاسب طوال السنوات الماضية لأنها كانت مستعدة للمغامرة وتحمل الثمن. ولقد دفعت الثمن من أرواح جنودها، ومن رفاهية شعبها. دعي جانبا أن هذا يتم بدوافع عقائدية، وتحت ظل نظام استبدادي قهري. المهم أنه حدث.

إذن يمكن لمصر أن تستوعب هذا الخطر بطريقتين. الطريقة النشطة هي التدخل النشط. الذي يجعلها لاعبا أساسيا في المعادلة. ربما تحقق مكاسب أكبر، لكنها ستكون مطالبة بتقديم تضحيات أكبر، تشبه تضحيات الجيوش في الحروب.

الطريقة الثانية هي الطريقة الحريصة. أن تتداخل مصر ولكن في حدود ضيقة. وأن تتفهم السعودية في شراكتها مع الإخوان المسلمين في سوريا وفي اليمن. وأن تنتظر لترى النتيجة. وتتعامل مع النتيجة وقت حدوثها. سيكون المكسب المتوقع في هذه الحالة أقل (دعما سعوديا أقل - وتأثيرا مصريا في مجريات الأحداث أقل)، ولكن الخطر الآني سيكون أقل أيضا. والحقيقة أن الوضع في سوريا لن يحسم بسهولة، والوضع مرشح للاستمرار سنوات طويلة. كنت لأتوقع أن يحصل الإخوان على مكاسب على حساب مصر. لكن حاجة الإخوان للدعم السعودي (والمصري أيضا) في اليمن، ثم في سوريا، أكبر من قدرتهم على المساومة عليها.

في هذه الحالة قد تحتاج مصر إلى تقارب أكبر مع إسرائيل. التي تتزايد يوما بعد يوم المصالح المشتركة بينهما.

الآن انسي ما فات كله. ليس قرآن ولا إنجيلا. هذه نقطة مهمة في التحليل الاستراتيجي. إنني أتحدث بموجب ما هو متاح لي من معلومات، وهي قليلة للغاية. فلست جهاز استخبارات. ويمكن أن تكون المقترحات ساذجة، تهدمها معلومة واحدة إضافية.

أومال إيه قيمته؟

قيمته الوحيدة أنني أطرح "طريقة تفكير". ستقودني إلى الإجابة عن السؤال الأساسي.

ما هي أهدافنا الاستراتيجية في المرحلة الحالية؟

1- الحفاظ على الشراكة مع دول الخليج.

2- كسر التمدد الإيراني قبل أن تتفوق إيران عسكريا. لا. لا أشير هنا إلى احتمال حيازتها للسلاح النووي، فهذا سلاح ردع أكثر منه سلاح هجوم. كما يمكن تحييده بمظلة نووية من الناتو أو أمريكا في دول الخليج. إنما الخوف أن تتفوق إيران في السلاح التقليدي، فتكسر التفوق العربي. هذا هو الخطر الأكبر حاليا من الاتفاق بين أمريكا وإيران. لأنه سيرفع عنها الحظر الاقتصادي وحظر السلاح. فيتيح للنظام الجهادي أن ينفق أكثر على التسليح وعلى المغامرات. كما يتيح لقوة كبرى كروسيا أن تحول المنطقة إلى ساحة صراع مفتوح مع أمريكا. كما رأينا من مسارعتها إلى رفع الحظر عن بيع منظومة الصواريخ الروسية، إس 300، إلى إيران.

3- تجنب تهميش دور مصر. المبالغة في العزوف عن المشاركة الفعالة سيجعل مصر أقل قيمة لدى الدول الأخرى، وفي نفس الوقت سيعظم أدوار دول كتركيا وجماعات كالإخوان المسلمين. ينبغي أن يظل الوضع - لو اختارت مصر التأني - تحت المراقبة الدقيقة.

4- تأمين قدرتنا على الصمود والدفاع عن الخيار مهما كان. سواء استخباراتيا، أو استراتيجيا "بتحالفات بديلة"، أو اقتصاديا. إن لم نكن قادرين على تأمين قدرتنا على الصمود في ظل خيار ما، فهو خيار سيئ، لا يصلح سياسيا.

ما يحدث في المنطقة الآن تحد تاريخي، له ما بعده، ويجب التعامل معه على هذا المستوى. وليس بمستوى التعبير عن الرغبات والأمنيات، ولا التصرف على حساب المخاوف فقط، بـ"عقلية الدوامة". لأنها مهلكة.