المناظرة بين الهدف والوسيلة
تابع البعض منا بلا شك تلك المناظرة التي أطلقتها تلك الفضائية الإعلانية، بين السيد إسلام بحيري الذي يقدم برنامجا مثيرا للجدل عبر القناة، وممثل الأزهر الشريف الدكتور عبدالله رشدي.
على المستوى الشخصي تألمت لأننا حين نسلك طريقا نحو غاية شريفة ومطلوبة، نختار لها في الغالب أسوأ الطرق وأسوأ التوقيتات، فقلما نصادف توفيقا في أيهما خصوصا في هذا الزمان.
قضية مراجعة تراثنا الفكري الذي ظل يتقدم في حياتنا، حتى احتل مكانة متقدمة في عقولنا كمرجعية تقدم سلطانها على سلطان النصوص القطعية، أوالمقاصد التي كان يجب أن تكون هي المرعية، بالرغم من أهمية قضية مراجعة التراث كمقدمة طبيعية لإصلاح الخطاب الديني الذي لا يمر إلا عبر مراجعة المعارف والعلوم الدينية وتقدير الغث منها والثمين، لكي تكون قادرة على إنتاج خطاب شرعي عصري ينتصر لحقائق الدين وأحكامه، ويحقق مراد الشارع الحكيم في العاجل والآجل.
إن ما شهدناه عبر تلك المناظرة التي لا يصح وصفها بمناظرة، وإلا شوهنا لونا من ألوان العلوم ونمطا من أنماط الحوار الذي اشتهر عبر تاريخنا وبرزت فيه أسماء وأعلآم في كل عصر ومصر، رسخوا بسلوكهم مبادئ للمناظرة لا يصح القفز عليها أبدا منها.
إخلاص النية في المناظرة اتفاقا مع شرطي قبول العمل عند المسلمين الإخلاص، وثانيهما الموافقة لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أن يدلي كل صاحب رأى برأيه وحجته المعتبرة بكل رفق وسكينة ووقار، يليق بما يحمله من علم وما يجسده بحاله ومقاله من قدوة لمن يشهد المناظرة، فكيف ويشهدها ملايين الناس في كل مكان، أن يختار كل منهما الألفاظ الواضحة والعبارات الجميلة في غير تقعر أو تفيهق.
يقول تعالى: "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِينا " 53 الإسراء
وقال: " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " 125 المائدة
وقال أيضا: " قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ "24 سبأ
تأملوا معي منهج القرآن وضوابطه في الحوار مع المخالف، وقارنوها بما يجري؛ لذا يجب أن يحرص المتناظران على أن يتجنبا تماما السب والشتم أو الهمز أو اللمز تصريحا أو تلميحا، وكذا الأساليب الملتوية كالخروج عن موضوع البحث لإرهاق من يناظره أو التشويش على عقله.
ألا يتصرف أيا منهما في كلام من يناظره بزيادة أو نقصان، أو ينسب إليه شيئا لم يقل به أو حجة لم يعتبرها.
ألا يلجأ للغة الجسد سواء الوجه أو الأعضاء بتجهم أو توعد أو تهديد، فالله تبارك وتعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والوجه مرآة الروح يظهر ما يحاول الإنسان إخفاءه.
ينبغي لمن يتصدى لمناقشة موضوع أن يكون صاحب قدم راسخة، في موضوع النزاع أو العلم الذي يتحدث به دون اختزال أو ابتذال.
هذه بعض الآداب التي لم يحترمها الطرفان في تلك المناظرة التي أشرت إليها، نأتي إلى ما تناظر فيه الطرفان.
فأسال ماهى المصلحة الشرعية والاجتماعية المتحققة من مناقشة القضية في الإعلام وعلى رؤوس الأشهاد، وعبر رمزين كل منهما لم يكن على مستوى قضيته، فالنقاش في المطلقات لا يجوز بل احترامها وتأكيدها ومنع الخوض فيها باعتبارها من أمور العقيدة أو الأمور التوقيفية، التي حددت بنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، أما الأمور الفرعية أو الظنية أو تلك المختلف عليها، والتي تخضع لقراءات وفهوم متعددة فلا بأس من النقاش حولها، بعد اعتقاد أهميتها وتقدمها على غيرها من الأولويات عبر حوار يضم المتخصصين، بعيدا عن الإعلام وكاميرات الاستديوهات في أجواء علمية هادئة تخرج بعدها النتائج ولابأس من إذاعتها بحيثيات واضحة فيما يهم الناس في حياتهم، ويمثل لهم أولوية تعين الأمة على النهوض من عثرتها، كموقع العبادات المتعدية في ديننا مثلا مقارنة بالعبادات القاصرة وأيهما يتقدم على الآخر؟
وما هو على شاكلة تلك القضايا الفقهية التي تفتح طريقا لأمتنا نحو النهوض وتنجو بها من اللغو الفارغ أو الجدل العقيم، الذي لا يصنع وعيا ولا يحسن إدراكا ولا يدفع الأمة في مدارج الرقى والكمال، فالمناظرة تبقى في النهاية وسيلة للوصول إلى الحقيقة، وتبصير الناس بهذا الحق وليست وسيلة مقصودة لذاتها كما يذهب البعض بوعي أو دون وعي .