مشهد الخطاب الديني: أين الثعابين؟ أين الضابط؟
توفيرًا لوقت القارئ الكريم وجهده يلزم التنويه أن السطور القادمة لا تهدف إلى تبني إحدى وجهتي النظر الحاكمتين للنقاش حول تجديد الخطاب الديني أو الهجوم على وجهة النظر الأخرى. كذلك لا تهدف هذه السطور إلى التقريب بين أنصار وجهتي النظر تحت أي ستار من الموضوعية أو الحياد. كل ما يسعى له كاتب السطور هو طرح مجموعة من التساؤلات الصريحة على القراء، في محاولة لفهم أبعاد المشهد الذي يبدو مؤخرًا وكأنّ كل عناصر الأزمة الدرامية قد توفّرت له.
يتعلق التساؤل الأول بمدى التأثير الحقيقي للتراث الديني في تصرفات المواطنين العاديين ونظرتهم للعالم. فأنصار التجديد أو التنوير أو ما شئت من مسميات يروجون تلميحًا وتصريحًا لفكرةٍ تُحمل تغلغل هذا التراث في نفوس الناس مسؤولية التخلف كاملةً. على الجانب الآخر يرى أنصار الهوية والأصالة أنه لولا هذا التراث الغائر في نفوس الشعب المتدين بطبعه لأنهار المجتمع وسقط في دوامات الانحلال. يرى "المجددون" أن التراث مسؤول عن الإرهاب وزيادة السكان وسيادة القيم التي تحط من شأن الحريات العامة والخاصة. وفي مقابل هذه النظرة يطرح الطرف المقابل نظرةً تبرئ التراث من هذه التهم، وتلقي بالمسؤولية كاملةً على الفهم الخاطئ لمعطيات التراث الفكرية. بل وترى في مثل هذه الاتهامات مؤامرة تهدف إلى تضييع الأمة وإفسادها. وهنا لنا أن نتساءل منطلقين من الواقع والتجربة الحية التي نعيشها إن كان التراث حقًا مسؤولاً عن التخلف أو مقاومًا له.
هل كل من يقرأ كتب التراث ينضم للتنظيمات الإرهابية؟ هل كل من يقرأ كتب التراث أو يستمع لأقوال بعض المشايخ حول تحريم تنظيم النسل ينجب بلا توقف؟ هل كل من اطلع على فتوى تبيح ضرب الزوجة مثلاً يستغل ذلك في إهانة زوجته؟ هل كل من قرأ رأيًا يحرم الاستفادة من فوائد أمواله في البنوك يلجأ للمصارف الإسلامية أو يضع نقوده في خزانة ملابسه؟ هل كل من استمع في خطبة جمعة إلى شيخ يعتبر الرجل الذي لا ترتدي زوجته وبناته الحجاب ديوثًا يذهب للبيت من فوره ويلزمهن بارتداء الحجاب؟ هل كل من قرأ عن فتوى رضاع الكبير سارع لالتقام ثدي زميلته في العمل؟ هل كل من قرأ عن فتوى زواج الطفلة منح ابنته لأول خاطب؟ هل كل من سمع بوجوب ختان الإناث شرعًا وضع ابنته تحت السكين؟ لو كانت الإجابة على الأسئلة السابقة وآلاف غيرها هي "لا"، فهل يمكننا أن نعتبر الأشخاص الواردين في الأسئلة من العلمانيين الرافضين للتراث؟ هل عدم الانضمام للتنظيمات الإرهابية والإلتزام بتحديد النسل والتعامل مع البنوك وعدم ارتداء الحجاب هو بدوره نتاجٌ لقراءة الكتب "العلمانية" أو الكتب التي تجدد الخطاب الديني؟ هل يعتمد كل هؤلاء الأفراد الذين سبق ذكرهم على فتاوى تراثية ـ متزمتةً كانت أم متفتحة ـ تبيح لهم العيش وفقاً لرغباتهم ومصالحهم؟
لاحظ سيدي القارئ أن كل الأسئلة السابقة قد احتوت على لفظة "كل". وكلٌ أو بعضٌ أو قليلٌ أو كثيرٌ هي ألفاظ تفيد العدد. وربما أفادتنا المناهج الإحصائية المهتمة بالأعداد في فهم العوامل الحاكمة للظواهر الاجتماعية على نحو أفضل.
التساؤل الثاني يتعلق بالأسئلة الواردة في سياق التساؤل الأول، وهو عن مدى إلمام المواطنين العاديين من مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية والمستويات التعليمية بمعطيات التراث. ومرةً أخرى ستُطرح الأسئلة في سياق الاستفهام عن "الكل". ولعل الاستفهام يأتي في هذا السياق استجابةً لطرفي المشهد، حيث يسعى كل منهما لطرح تصوراته علينا في إطار "كلي" شامل.
هل كل من يواظب على الصلاة وأداء المناسك قد سبق له قراءة القرآن كاملاً والاطلاع على تفسيراته المتعددة؟ لحظة.. هل كل من يملؤون المساجد في صلوات الجمعة وغيرها من أوقات الصلاة يجيدون القراءة؟ هل يراجع كل متدين ملتزم قبل أن يقدم على أي فعل أو تصرف الباب الخاص بهذا الفعل في كتب الحديث أو الفقه؟ هل يمتلك كل مسلم حريص على دينه نسخة في بيته من سيرة الرسول لابن هشام أو تاريخ الخلفاء للسيوطي أو صحيح أحاديث البخاري؟ هل يحتفظ كل من ذهب إلى المدرسة يومًا في ذاكرته بالآيات القرآنية التي وجب عليه حفظها؟ هل يتذكر ذات الشخص تفاصيل القصص التراثية التي قُرر عليه دراستها؟
إجابات الأسئلة السابقة لا يدعي الكاتب امتلاكها. لكن مرةً أخرى قد يساعدنا المنهج الإحصائي "البارد" في فهم أفضل للظواهر الاجتماعية التي تنعكس في الخطاب الديني بل والسياسي والفني أيضًا. ولعل التساؤلين السابقين عن مدى تغلغل التراث وإلمام الناس بمعطياته يقودانا إلى التساؤل الثالث والأخير الخاص بالعلاقة الجدلية (عطاءً وأخذًا أو فعلاً ورد فعل) بين الوضع الاجتماعي السائد وتجلياته في الثقافة التي تعلن عن نفسها في الدين والسياسة والفن والسلوك وكل مظاهر الوجود الإنساني.
هل كل من يكثر الإنجاب يفعل ذلك لحاجة اجتماعية أو رغبة شخصية أم تماشيًا مع التراث الديني؟ هل كل من يمارس الإرهاب يفعل ذلك لقناعات تراثية أم تحقيقًا لرغبة أصيلة في العنف ناتجة عن كراهية الذات والآخر؟ هل كل من يضرب زوجته يفعل ذلك اقتداءً بقول مأثور أم استهانةً بها وبوضعها كامرأة؟ هل كل من يرتدين الحجاب يفعلن ذلك عن قناعة أم رضوخاً لضغوط الانتماء والتوافق مع جماعات اجتماعية ؟ هل كل من يخلعن الحجاب يفعلن ذلك عن قناعة "جديدة" أم تحقيقا لرغبة خاصة أو استجابة لضغوط مجتمعية من جماعات أخرى؟
ما سبق ليس سوى أمثلة لآلاف الأسئلة الصغيرة التي يمكن طرحها في سياقات التساؤلات الثلاثة السابقة. وعلوم الاجتماع والنفس وتاريخ الثقافة والتاريخ بمعانيها الشاملة وبمناهجها التي تُعنى بالتفاصيل والجزئيات، قد تكون أكثر قدرةً على تقديم الإجابات من طرفي المشهد الحالي الذي يدعي كل منهما معرفته الكاملة بدوافع الآخر وخطته. هذا المشهد القائم على افتراضات عامة كلية من الطرفين يذكرنا بمشهد "عم أيوب الجواهرجي" الشهير في مسرحية الجوكر الهزلية. ففي هذا المشهد نرى طرفين (أيوب وشوكت) يسعى كل منهما لذات الهدف وهو الاستيلاء على مجوهرات الأرملة الحسناء عن طريق إبراز خصمه كنصاب في أعين الأرملة. ولتحقيق هذا الهدف يتهم أيوب خصمه شوكت في حوار عبثي رائع بأنه دجال يطلق الثعابين الخطرة ويحذره من أنه إن لم يكف سيتركه للضابط "الوهمي" ليتعامل معه. على الجانب الآخر يتهم شوكت الجواهرجي العجوز بالخرف. لكن الوعي العام ربما لا يجدر به أن يكون كالأرملة الحسناء في المشهد يستمع للخصمين في سلبية متعجلة تسعى لإنهاء الموقف بمسايرة منطق الخصمين المتناقضين على حسب سير الأمور، بل عليه أن يطرح الأسئلة على كليهما في برودٍ كامل وصبرٍ لا ينفد.