والآن أتكلم عن البخاري
لم أعط لنفسي الحق يوماً أن أهاجم البخاري، لأن ذلك يحتاج إلى عالم قد ارتقى في علم الحديث دراية ورواية، وأنا لست هذا الشخص، لكننى أجدني اليوم مضطرًا أن أدخل فى السجال، لأدافع عنه، بعد أن استمعت إلى حلقة تلفزيونية متخصصة في نقد التراث، ووقف شعر رأسي، واقشعر جلدي، حين استمعت إلى من يقول بكل تعالٍ وكبر، للإمام الشافعي، والإمام مالك، والبخاري، "إن حظيرة خنزير هى أطهر منكم"، رغم أنه لو ظل طوال عمره يكتب ويؤلف ويتحدث، ما بلغ مُدّ، أو عُشر أحدِهم.
ورغم أنني كنت من الذين تحدثوا في موضوع التراث، وكتبت فيه كثيراً، وفى ذات المكان هنا، حول أننا نحتاج إلى مراجعات دقيقة لكتب التاريخ والسير، وأن تلك المرويات، إنما كتبت في سياق ظرف تاريخي معين، وأن بعض ما كتب فيها إما أنه كان صحيحاً، أو مكذوباً، أو مضللاً، وهذا هو مشروع الأمة الآن، إن أرادت أن تتصالح مع نفسها، وتقوّم خطابها الديني، لكننى لا أؤمن مطلقاً بأن نهين التراث، أو أن نهيل التراب عليه، فهذا هو غير المقبول، لأن أي أمة بلا ماضٍ، هي بلا حاضر أو مستقبل، لكننا وللأسف، وقعنا بين متطرفين، إما أنهم يفجرون ويقتلون اعتماداً على فهم مغلوط للتراث، أو لنصوص تحتاج لتدقيق ومراجعة، أو متطرفين آخرين يريدون إلغاء التراث الإسلامى كله بخيره وشره، وصحيحه وضعيفه.
دعونى أولاً أحدثكم عن الإمام البخارى، المظلوم، الذي ولد فى عصر انتشر فيه الكذابون على النبي الكريم، حتى وجد الناس ملايين الأحاديث التي لا تحصى عدداً، وكانت فيه الفتنة الكبرى التى خلطت السياسي بالديني، وأصبح فيه الملك جبرياً وراثياً، فأراد أن ينقذ الأمة، وكان أول من وضع شروطاً، هو والإمام مسلم، تصحح السند، وتبين ضعيفه من حسنه، وحسنه من صحيحه، واشتغل الرجل على السند، واختار أحاديثه بعناية فائقة، في زمن انتشرت فيه الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتشرت كلمة نقَلتُها "الرواة"، وكان فيهم الكذّاب والصادق، فكان هو من تصدى للكذابين على النبي الكريم، وبيَّن حال الرواة من ضعف أو قوة، وجمع أكثر من 60 ألف حديث، ثم وضع كتابًا مختصرًا جامعًا لما صحَّ من سُنَّة الرسول، في جميع أحواله ورُتَبِه، وبوَّبه تبويبًا بديعًا، بلغ حوالى 6 آلاف حديث فقط.
المهم أن الرجل لم يجلس في استوديو مكيّف، أو تقاضى أجراً على كل حديث ينقله، أو قعد فى شرفة منزله يَحتسي القهوة ويكتب الأحاديث، لكنه لفّ العالم، وبلغ به الجهد مبلغاً عظيماً حتى يقابل كل من روى حديثاً، وعرّف أجيال المسلمين بالصلوات الخمس ومواقيتها وأحكام السهو فيها، وهى لم تذكر فى القرآن؟ وتعلم المسلمون منه جيلاً وراء جيل حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم): « يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» فهو العمدة فى تحريم الأخوات والأمهات والعمات والخالات والجدات من الرضاعة، وهى من ثوابت الشريعة الإسلامية، وتعلموا منه أحكام المواريث بما فيها من تفاصيل دقيقة، مثل توريث الجدة، وهى لم ترد فى القرآن أيضاً، وغيرها من الأحكام.
ولأن البخارى بشر، وما قام به جهد بشري، فأكيد فى وسط هذه الآلاف من المرويات سيكون هناك أخطاء، لكننا يمكن أن نحصيها، وندققها ونراجعها، إن كان لدينا مشروع آخر، حول المتن، الذي لم يشتغل عليه البخارى.
إذن فالرجل اشتغل على السند، فى مشروع علمي ضخم، وهو لم يبلغ الـ28 من عمره، وترك لمن بعده، نقد المتن، وجاء علماء الأحاديث فرفضوا بعض ما أورده فى صحيحه، لما أسموه بالعلة، وهي تلك التي تنقدح فى نفس عالم الأحاديث الكبير حينما يرى متن الحديث غير متسق أو متوافق مع القواعد والأصول العامة والمقاصد العليا للإسلام، ويقال عنها إنها «العلة الخفية».
وهكذا لم يقدس أحد البخارى، لا من عاصروه، ورووا الأحاديث مثله، ولا من جاءوا بعده، لكنهم كلهم اتفقوا على أن كتابه هو الأصح من ناحية السند، وليس مشكلته أننا تركنا الاجتهاد، وأوقفنا عقولنا، ولم نكمل ما بدأه الرجل، فى نقد المتن.
والبخاري مثل ابن تيمية تماماً، تعرضا لحملات منظمة، وبالأخص الأخير، الذى ولد في عصر الهجوم التتري، وكان التتار قد وجدوا أن دول الإسلام تستعصي عليهم، فتترسوا بالمسلمين، ثم دخلوا البلاد عنوة وفتحوها بقوة السلاح، وادعوا أنهم مسلمون، وألفوا كتاب الياسق، وهو دستور سيدهم جنكيز خان، فأفتى بقتالهم، وتحرير أراضى المسلمين منهم، وليست جريمته أنه أفتى بذلك فى عصره، فجاء شباب بعده بمئات السنين، وأخذوا ما أفتى به فقطعّوا الرقاب، وفجروا الكمائن وقتلوا المسلمين.
وأتعجب من الذين يدعون أنهم قادرون على أن يقضوا على البخارى تمامًا، وهذا محال بالطبع، فإما أنهم يدركون أنه لو تحقق ما يصبون إليه، فهذا معناه أن المسلمين وتحديداً أهل السنة، لن يجدوا مرجعية يعودون إليها، وساعتها سيتركون الدين بالجملة، وهذا هو ما يريدونه بالضبط، وإما أنهم يعالجون القصور والأخطاء، وهذا لا يكون بتلك الطريقة، أو مستفيدون، ووجدوا (سبوبة) يأكلون منها لقمة عيش ليس على حساب البخاري، بل على حساب الأمة جمعاء، وعلى حساب ردة الفعل المتطرفة فى الناحية الأخرى، بعد تلك الحملات.
نلخص القول، إن التراث ليس مقدساً، لكنه فى ذات الوقت غير مدنس، وإنه يحتاج لتدقيق ومراجعة، ومشروع كبير للأمة، لكن لا يصح أن نتركه بالجملة، فلا يعيب البخاري، أو مسلم، أن يوجد في ما روياه أحاديث لا يتفق متنها مع عقولنا، فهذا عيبنا نحن، أننا لم نكمل مشروعهما، ولم نبدأ من حيث انتهيا، لكننا بكل عجرفة، وكبر، وتعالٍ، وبجهل ودون علم، نريد الآن أن نهيل التراب عليهما، وما أحسن ما قال البحتري: إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوبي، فقل لي كيف أعتذر؟.