التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 04:53 ص , بتوقيت القاهرة

اليمن وحروب الشرعيات الهشة

الشرعية الهشة هي شرعية مُحاصرة وضعيفة وعاجزة. شرعية من يملك ولا يحكم. من يحوز السُلطة اسمًا دون أن يُمارسها فعلاً. هي تشبه قراراً لإزالة عقار مُخالف دون قوة إجبار تنفذه. أو قضاء بلا شرطة تعمل على إنفاذ أحكامه.


تآكل الشرعية ليس جديدًا على عالمنا العربي. لقد ظلت هذه العملية تتفاعل وتنخر في البُنى السياسية العربية لعقود. انفجارها بهذه الصورة المروِّعة والمُفزعة –في أعقاب الربيع العربي- هو الجديد، والمخيف أيضًا.


لدينا اليوم عددٌ لا بأس به من تلك الشرعيات الاسمية الهشة. في سوريا والعراق وليبيا واليمن. هذه الدول الأربع لم تعد دولاً بالمعنى المُتعارف عليه للدولة. من الصعب أن تعود كذلك في أي وقت قريب.


الشرعية الهشة لها وجهان؛ كلٌ منهما مزعجٌ ومثير للاضطراب. الوجه الأول هو انهيار السُلطة المركزية وما يُصاحبه من تصاعد في نفوذ "سُلطات" أخرى، مذهبية كانت أم ميليشياوية أم إجرامية. الوجه الآخر، هو ما تُخلفه "الشرعية الهشة" من فراغ يغري قوى أكثر تماسكًا في الجوار بفرض إرادتها والاستفادة من الوضع المتداعي لمصلحتها.


هذان التفاعلان يحدثان في نفس الوقت. كلٌ منهما يُعزز الآخر ويغذيه. لكي تنفذ القوى الأجنبية إلى مسارح الدول ذات الشرعيات الهشة، فإنها تحتاج إلى ميليشيات تعمل من خلالها. الميليشيات بدورها تحتاج –في أغلب الأحيان- إلى مظلة خارجية تحتمي بها. هكذا تكتمل الدائرة الجُهنمية.


الدول ذات الشرعية الهشة لا تُثير المشاكل لذاتها فقط، وإنما لجيرانها أيضًا. وربما للعالم كله. هي مصدر للإرهاب، ومنبع لا يفنى للاجئين والمُهاجرين الهاربين من الجحيم. هناك اليوم ستة ملايين لاجئ سوري. هذه أزمة سنعيش معها في الشرق الأوسط لعقود قادمة. في منطقتنا، قلما يعود اللاجئون إلى ديارهم. في منطقتنا، سُرعان ما تكتسب الأوضاع المؤقتة صفة الديمومة، وسُرعان ما ينزع الناس إلى الاعتياد عليها والتأقلم معها. الأمر ذاته ينطبق على الوضع في ليبيا، حيث يُرابط ما يقرب من مليون شخص قُرب الشواطئ انتظارا لفرصة تحملهم إلى الضفة الأخرى من المتوسط. هذا الصيف قد يشهد نزوحًا غير مسبوق في اتجاه الشواطئ الإيطالية.


اليمن هو الحلقة الأخيرة –حتى الآن- في مسلسل "الشرعيات الهشة" على الساحة العربية. تعتمل على أرضه خمسة صراعات، على الأقل، في الوقت نفسه: صراع الحوثيين ضد الحكومة المركزية (الممتد من 2004)، وصراع الجنوب من أجل الانفصال (الحراك الجنوبي)، وحرب علي عبد الله صالح وعائلته من أجل العودة للسلطة، وصراع القاعدة ضد الجميع، وصراع طهران مع الرياض (بالوكالة).


منذ اقتحام الحوثيين للعاصمة اليمنية في سبتمبر 2014، صرنا أمام وضع جد غريب. لم نعد نعرف من يُحرك الحكومة فعليا في اليمن؟ من يُسيطر على الجيش والأمن؟ هل هو الرئيس هادي؟ (الذي جاء بالانتخاب بعد عملية مُصالحة رعاها مجلس التعاون الخليجي لإنقاذ اليمن من مصير سوري/ليبي)، أم الحوثيون الذين انتشروا في العاصمة، وفرضوا نقاط التفتيش، وأخذوا يُمارسون الحُكم فعليًا في الوزارات المختلفة، إلى أن انتهى الأمر بإصدارهم إعلانًا دستوريًا مطلع العام الحالي، في انقلاب كامل على السُلطة القائمة؟


الوضع في ليبيا لا يختلف كثيرًا. هنالك أيضًا شرعية مُحاصرة –منتخبة كذلك- في "طبرق"، بعد أن اقتحمت ميليشيات فجر الإسلامية العاصمة طرابلس في صيف 2014.


في الحالتين نحن أمام دولة فقدت سلطاتها الرسمية القرار السياسي. في الحالتين نحن أمام عاصمة تُسيطر عليها ميلشيات منظمة. في الحالتين فرّ رأس السلطة التنفيذية لبلدة أخرى. في الحالتين هناك حضور مُعتبر للقاعدة وداعش (وجود القاعدة في اليمن هو الأكبر مُقارنة بأي مكان آخر في المعمورة).


ما العمل مع هذه الأوضاع، التي يبدو أن المنطقة ستواجه المزيد منها في المستقبل؟


يطرح كاتب السطور النقاط الخمس التالية لإثارة التفكير وتحفيز المناقشة:


(1) في التعامل مع الأوضاع الخطيرة التي تنشأ في الدول ذات الشرعيات الهشة، لا يُجدي التجاهل ولا ينفع النكوص. أتحدث هنا عن الجيران المباشرين لهذه الدول، وعن الفاعلين الرئيسيين في النظام العربي. تجاهل هذه الأوضاع وإنكار وجودها بالانصراف عنها لن يؤدي إلى زوالها. بديل مواجهتها هو مخاطر بلا حدود، ومواجهة مؤجلة بكُلفة أكبر في المستقبل.


(2) لا يُمكن التعامل مع هذه الأوضاع بمنطق "إعادة هندستها" لتصير أكثر استقرارًا. لا مجال لإعادة هندسة سوريا لتعود دولة من جديد في أي وقت قريب. الأمر ذاته ينطبق على ليبيا واليمن. تمكين الشرعيات الهشة في هاتين الدولتين تُمثل الحل المثالي ولكنه، للأسف، بعيد المنال. الاستراتيجية الصحيحة هي التعامل مع المخاطر بمنطق الاحتواء وسياسة الحصار والتحجيم. سيكون على الدول ذات المصلحة في الاستقرار دعم بعض الجماعات السياسية والعسكرية داخل هذه الدول المتداعية، لا لتفرض سيطرتها الكاملة (فهذا لن يحدث)، وإنما لحرمان ميليشيات أخرى أكثر خطرًا من فرض سيطرتها. إنها لعبة توازن لن تُحسم نتيجتها قريبًا. ويقودنا ذلك إلى النقطة التالية.


(3) حروب الشرعيات الهشة ستستغرق زمنًا ليس باليسير. ينبغي على الدول في معسكر الاستقرار أن تهيئ نفسها –سياسيًا وعسكريًا- على خوض حروب النفس الطويل. يقتضي ذلك ترتيبات سياسية وخطابًا صريحًا يواجه الجمهور بحقيقة التحديات القائمة، وبما تنطوي عليه المواجهة حتمًا من تضحيات وخسائر ينبغي تقبلها. إن التضحيات والخسائر تدفع أذى أكبر، وتؤجل أكلافًا أفدح في المستقبل.


(4) وكما تحتاج هذه النوعية من الحروب لتهيئة سياسية، فهي تحتاج إلى ما يُشبه ثورة في العقيدة العسكرية والنظم التسليحية والتدريبية. حروب الشرعيات الهشة لا تشبه أكتوبر 73، وإنما كوباني 2014. هي لا تحتاج إلى أعداد هائلة من الدبابات والطائرات، بقدر ما تحتاج إلى أفراد مدربين على القيام بعمليات خاصة، مُعقدة وصعبة، في داخل مناطق كثيفة السُكان. تحتاج إلى اعتماد أكبر على الاستخبارات الدقيقة، وإلى قوات رشيقة سريعة التحرك. تتطلب أيضًا قدرات تكنلوجية وخبرات في حماية الحدود ومراقبتها، وفي جمع المعلومات واختراق التنظيمات الإرهابية. هذه هي حرب المستقبل في المنطقة: حرب طويلة، بلا نتيجة واضحة حاسمة، مع عدو مراوغ خفيف الحركة، يذوب – في أحيان كثيرة- بين السُكان المدنيين. لكي نخوض هذه الحرب ونكسبها علينا أن نُغير التفكير العسكري القائم. علينا أن نُبدل الإيقاع ليلائم اللحن السائد.


(5) أخيرًا، في حروب الشرعيات الهشة – وينطبق ذلك على عملية عاصفة الحزم التي أطلقتها السعودية في اليمن- سيكون الهدف في كثير من الأحيان هو حرمان الخصوم من توطيد دعائمهم. أتحدث هنا عن المعركة الدائرة مع طهران على أكثر من مسرح عربي. هذه المسارح الدموية لابد أن تتحول إلى ساحات استنزاف للمشروع الإيراني التخريبي. لا ينبغي تمكين طهران من أن تهنأ بترسيخ سلطانها في أي عاصمة عربية. يتعين مناوشتها واستنزافها باستمرار لرفع كلفة مشروع الهيمنة البغيض الذي تباشره. إن لم يكن لدى العرب القدرة على فرض أوضاع جديدة ومستقرة –وتلك هي الحقيقة- فلا أقل من الحيلولة دون ترسيخ أوضاع شاذة ومرفوضة.