من حق الشعب أن يعرف
امتلك الشعب المصري عبر تاريخه روحا صبورة حكيمة تصمت فيعتقد البعض أن صمتها خضوع، لكنها تقلب الأمر دوما من كافة وجوهه، ترعى العواقب وتتحسس المواقف قبل أن تتكلم بصوت هادئ أو صاخب، أو تتحرك بنفس الهدوء أو حتى بنفس الصخب، امتلك هذا الشعب حكمته الجمعية فوضع ثقته فيمن يستحق الثقة، ووهب الفرصة لمن يستحقها وأمهل البعض بقدر ما يستشف صدقه وطبيعة الأحوال المصاحبة مواتية أو غير مواتية لغضبه أو لصمته، وما أجمل كلمات الأستاذ عبدالحليم قنديل عندما كان يقول مصر هادئة كصفحة النيل، لكنها حين تغضب تدهس كأقدام الفيل.
تمر بمصر أصعب مراحل تاريخها، هي تلك المرحلة التي تلت ثورة يناير التي أفرزت حكم جماعة تصور البعض انها ستكون قطيعة مع نظام مبارك، بما يحمله ويمثله من سياسات وتوجهات أفرزت ثورة عظيمة رفعت آمال وطموحات المصريين نحو عنان السماء، لكن الإخوان أكدوا بالحال وبالمقال أنهم الوجه الآخر لنظام مبارك، فلكل منهما شبكات مصالحه ودائرته المغلقة التي لا تسمح سوى بمرور المتوافق معها في التصور والسلوك.
وعندما أطلق الشعب المصري موجات 30 يونيو في اللحظة التي يأس الكثيرون من إمكانية إزاحة حكم الإخوان، الذين تصوروا أنهم باقون في الحكم لقرون بما يملكون من تنظيم وأدوات وتحالفات في الداخل والخارج ، وأزاح الإخوان كما أزاح مبارك كان الشعب حازما في حركته ،حينما أكد ان الدولة التي يريدها هي دولة مدنية حديثة أساسها المواطنة والانتماء لتراب هذا البلد وتغليب مصالحه فمصر فوق الجميع، لذا حرص المصريون على أن يتضمن دستورهم الجديد ميثاق عمل أي نظام قادم لتبقى شرعيته مرهونة بمدى احترامه لهذا العقد الاجتماعي، الذي يضمن الحقوق والحريات كان من أهم الكلمات التي نصت عليها تلك الوثيقة المقدسة كلمتي الحقيقة والعدل.
وعندما تثار قضايا متصلة بمستقبل وأمن هذا البلد ، سواء علاقات مصر الخارجية وتحالفاتها وملامح نظرية الأمن القومي المصري التي تحدد ماهي نقاط القوة لدينا ما هي نقاط الضعف، ما هي الفرص المتاحة ؟ما هي المخاطر؟ من هم الحلفاء ؟من هم الأصدقاء؟ من هم الأعداء ؟
ماهي معايير اختيار الوزراء والمحافظين، ما هو حظ الشعب وقواه الحية في هذا الاختيار، مضى هذا العهد الذى يحتفظ فيه رأس الرئيس بكل شاردة وواردة وتصب كل الملفات في حجرته وحده وتتحرك بين تلافيف عقله، نحن في زمن المؤسسات وكما كان يصرح الرئيس السيسى " بيكم يا مصريين لوحدى مش هاقدر " نريد أن يتجسد هذا المعنى في كل سياسة وقرار يصدر عن مؤسسة الرئاسة، التي نتمنى أن تستكمل بالفعل مقتضيات المؤسسية ولوازمها، نريد أن نطمئن لأداء جمعي مؤسسي يعتمد الخبرة والكفاءة ويحدد معايير واضحة وشفافة للتقييم .
لا أخفيكم أن استمرار الدولة بلا أي مؤسسة رقابية تخضع لسلطة الشعب، أمر ضار جدا بالمستقبل خصوصا في ظل حركة ملفات حرجة وحساسة لاتحظى بأي متابعة أو رقابة أو حتى مساءلة من الشعب مثل مياه النيل مثلا وسد النهضة، من حق الشعب أن يعرف ما هي خطوط الحوار والاتفاق مع أثيوبيا ؟هل تلبى الاتفاقية الحد اللازم من مصالحنا أم ربما تضر بها؟ وما هي الضمانات التي نعتمد عليها قفزا على النوايا الطيبة للأطراف؟ وهي ليست من بين بنود القانون الدولي أو العلاقات الخارجية مع الدول.
إن وضع استراتيجيات مستقبلية لمصر الجديدة، سواء في التعليم أو الصحة أو الإسكان سواء بعاصمة جديدة او تخطيط جديد للدولة، لا يجب أن يستبق أبدا وجود برلمان يشارك في وضع التصورات وينقد الخطط ويطورها، لا يجب ان تسبق الرغبة في العمل والإنجاز التأكيد على المحاسبة والمراقبة من الشعب عبر نوابه.
كيف ستمضي خطط التوسع في غياب مجالس شعبية محلية في كل محافظاتنا؟ كيف سنضمن ألا يكون هناك فساد في العقود أو التنفيذ ؟
كيف سيكون التشريع راسخا وهو لم يصدر عن سلطته الفعلية وهوما ساهم في الثورة على الإخوان وعلى مرسى، فكيف نقبل بما لم نقبل به اعتمادا على الأمنيات أو النوايا الطيبة، من حق الشعب أن يعرف حيثيات كل قرار وضرورات كل تشريع، وهو من سيقبل أو سيرفض في النهاية، فهو السيد في هذا البلد بثورتين ورئيسين في السجن.