"الاقتصاد" سر تحالف الإسلامجية واليسار والأزهر
لا تتسرعي فتظني أن هذه القوى المشار إليها، الإسلامجية واليسار والأزهر، متشابهة، أو أنني أتوقع أن تشكل معا تحالفا سياسيا معلنا. لا. ستظل على خلاف، وفي مواسم الصراع على السلطة ستكون انحيازاتها مختلفة. إنما هناك عامل واحد سيجمع بينها. معارضة التحديث. على كل المستويات.
ما هو التحديث؟
التحديث هو انتقال المجتمع من وسائل إنتاج إلى وسائل إنتاج جديدة، لها أدوات إنتاج جديدة، ولها قوة عاملة بمهارات جديدة، ومنتجاتها ذات مواصفات جديدة.
مثال:
اكتشاف النار، أول ثورة تكنولوجية في التاريخ. ساعد على حفظ اللحوم مدة أطول، صار الصيد يتطلب قوة عمل أقل (لأن الفريسة تبقى محفوظة مدة أطول)، صار المنتج أفضل طبيا، إلخ.
الأثر الاقتصادي؟
يزداد الإنتاج بسبب دخول عوامل خارجية كالميكنة والكمبيوتر (كالنار تماما). سوق العمل يتطلب عمالا على دراية باستخدام التكنولوجيا الحديثة. إنجاز المهام يتطلب قوة بشرية أقل. أصحاب الحرف القديمة تتراجع أهميتهم. بعض المهن تختفي تماما.
مثال:
حين أراد الخليفة العثماني استقدام آلة الطباعة لأول مرة رفض مفتي الأستانة ذلك، وكان وجه اعتراضه أن الطابعة استخدمت أول ما استخدمت في طباعة الكتاب المقدس، وبالتالي "ليست طاهرة". لكن نظرة أخرى إلى الموضوع سنكتشف معها أنه كان أيضا "رئيس طائفة النساخين"، كما جرت العادة. وبالتالي، فإن هناك سببا اقتصاديا لرفضه الطابعة، إذ ستفقد مهنة النساخين أهميتها، وسيفقد النساخون وظائفهم. هذه التكنولوجيا الحديثة - كغيرها على مدار التاريخ - ستؤدي إلى فقدان أصحاب مهن أعمالهم. (نفس هذا سرى على مهن عظيمة كالحدادة والزراعة اليدوية وترويض الأحصنة.
هذا شبيه تماما بما يحدث حاليا. فعلى قدر ما بين الإسلامجية والأزهر واليسار من اختلافات تتحد هذه القوى الثلاث في مقاومة التحديث والانتقال إلى مجتمع رأسمالي حر. لماذا؟ لأن جمهور هذه القوى الثلاث يستفيد من الحال التي نحن فيها الآن.
التحديث القسري البطيء الذي تم في مصر خلال العقود السابقة كان محصلة لقوتين. الأولى هي مسار التاريخ، طغيان الآلات وأجهزة الكمبيوتر، الذي يجبر أي دولة على استخدامها. والقوة الثانية، العكسية، هي مقاومة شعبية لهذا التحديث، موجودة في كل الأوساط، حتى سلطة الحكم، ومدعومة بتيارات سياسية تعتاش على هذه المقاومة الشعبية "الضارة"، وتداهنها، على حساب اقتصاد البلد ورفاهية أبنائه.
ما سبب هذه المقاومة؟
سببها اقتصادي. كل هذه الجموع من ذوي المهارات المحدودة ستفقد وظائفها، وتحتاج إلى من يكفلها.
وكيف ستتعامل هذه القوى مع تلك الحقيقة الاقتصادية؟
اليساريون: سيطالبون الحكومة بالتعليم المجاني للجميع، بغض النظر عن مدى استيعاب سوق العمل لخريجي الجامعات. حين يتخرج الجامعيون سيطالبون القطاع العام بتشغيل هؤلاء. بغض النظر عن حاجة العمل الحقيقية. حين تخسر شركات القطاع العام، بسبب العمالة الزائدة مع قلة الكفاءة، ويزيد الإنفاق الحكومي، سيطالبون الحكومة بزيادة مواردها بزيادة الضرائب على المستثمرين. ليس هذا فحسب، بل سيقفون في وجه امتيازات إغراء المستثمرين. كما سيشنون حربا إعلامية على الاستثمار. أي سيطفشون الاستثمار.
سيستخدمون ادعاءات أخلاقية كالفساد وغيره. لكن الغرض الحقيقي إبقاء وسائل الإنتاج على ما هي، أو مقاومة تحولها بقدر الإمكان، للحفاظ على "وظائف جمهورهم". ليس هذا فحسب. بل سيطالبون بمكافأة هذا الجمهور، بغض النظر عن الوضع الاقتصادي. سيطالبون بزيادة الحد الأدنى لأجور موظفي الحكومة. سيدافعون عن بقاء إيجارات الشقق منخفضة، رغم الظلم على مالكيها. سيدافعون عن بقاء مستأجري الأرض الزراعية مسيطرين عليها، ومنتفعين بها مقابل قيمة غير عادلة بالنسبة لملاكها الأصليين، وسيصفون هذا بأنه "عدالة اجتماعية". سيشنون حربا إعلامية خلف ستار "الدفاع عن الفقراء" وغيرها من الشعارات. في الحقيقة إنهم لا يدافعون عن الفقراء، بل يكرسون بهذه السياسات للفقر لمدة أطول.
باختصار، سيدافعون عن "المصالح الاقتصادية قصيرة الأمد لجمهورهم"، ولو على حساب انهيار اقتصاد البلد.
الإسلامجية والأزهر: رغم كل الاختلافات فيما بينهم، بسبب تنافسهم على السلطة الدينية، إلا أنهم هاهنا سيتفقون اقتصاديا. لماذا؟ مثلهم مثل اليسار، في مرحلة الانتقال من الاقتصاد التقليدي إلى الحداثي، وفر هؤلاء لمن لا يملكون مهارات مصدر دخل. كيف؟ بتحويل الوعظ - الذي لا يحتاج إلى مهارات حداثية - إلى مهنة، متطلباتها كلها في استطاعة المجتمعات التقليدية. أي خريج كتاب يستطيع أن يلقي درسا أو يلقي خطبة جمعة، كما يستطيع أن يؤم الناس. هذا الانتشار الرهيب لدور العبادة أسفل المساجد ليست دوافعه إيمانية صرفا، بل اقتصادية في الأغلب. كل زاوية من تلك تشغل على الأقل إماما وخطيب جمعة وخادما ومؤذنا، 4 فرص عمل محدودة المهارات جدا (كما تستطعين أن تختبريها بنفسك إن استمعت إلى أذان وخطبة جمعة). لك أن تحسبي عدد المشتغلين في الزوايا في عموم الجمهورية. يتنافس عليها الأزهر والأوقاف والإسلامجية. لكنهم يتفقون في أهمية الحفاظ عليها وعلى وظائفها (عدديا) كما هي.
سيستخدمون الدين لحفز فرصهم التجارية، كما في التوحيد والنور، شركات توظيف الأموال، وغيرها من المشاريع التجارية المصبوغة دينيا.
الأزهر يقدم لنفس الجمهور فرصة تعليم استثنائي. بإمكان المسلمين - ولا سيما فقراؤهم - أن يحصلوا من خلاله على ميزة تفضيلية في كليات الطب والصيدلة وغيرها من كليات القمة. بإمكان المسلمين ولا سيما من القرويين الحصول على فرصة تعليم أزهري إن فاتهم التعليم العام، أو إن كانت ظروف التعليم الأزهري أيسر. المعاهد الأزهرية تبنى تطوعا، وبلا إشراف كامل من وزارة التعليم.
اليسار بدوره لا يهتم كثيرا بمعارضة هذا - قدر اهتمامه بمعارضة المدارس الأجنبية والجامعات الخاصة - لأنه لا يريد أن يغضب جمهور الأزهر من "الفقراء".
الانتقال إلى الحداثة انتقال إلى حياة سياسية واقتصادية تحكمها قيم المدينة، قي2م الحرية الفردية، لا الرقابة العائلية، قيم المنافسة الذهنية لا الإرغام العضلي، قيم التعاون بين الغرباء، لا العصبية الجماعية.
في رحلة الانتقال تتحالف الصفوف الخلفية، بدءا من هوامش المدن وصولا إلى القرى، لمقاومة هذا التحديث. هذا التحالف يحمل قيم القديم، ويدافع عنها، ويستخدمها كحجة استعلاء أخلاقي. لكن الحقيقة أن الدافع اقتصادي بحت.
كيف نقلل من أثر هذا؟
بتغيير الثقافة، بالإصرار على خطاب سياسي واقتصادي واقعي لا ينهزم أمام الشعارات، بل يتحدث إلى تلك الجموع بوصفهم أناسا عقلاء راشدين يجب أن يعلموا أن لا سبيل للمنافسة سوى اكتساب مهارات العصر الحديث، وأن كفالة فرد متقاعس، محدود المهارة، يتحملها المجتمع بأسره. وأن كل راتب تتقاضاه موظفة "البطالة المقنعة" يطرح من ثروة البلد. أومال إحنا جايبين الاقتصاد التعبان دا منين؟