التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 11:21 م , بتوقيت القاهرة

الخلافة التي قتلها العثمانيون وحنطها الفراعنة

حين قال لي سائق التاكسي "منه لله محمد علي اللي خرب البلد وجاب العلمانية. دا اللي ضيعنا"، سألته عن تعليمه. هذا الكلام الذي يبدو واعيا، ويستخدم بعض التعبيرات الحديثة، لكنه تافه وجاهل، يصدر في مصر عادة عن فئة واحدة - طلاب الجامعة من الإسلامجية.


سألته كيف وصل إلى هذا الاستنتاج. طلبت منه أن يذكر لي خسمة أسماء مصرية عظيمة في الفترة التي سبقت محمد علي. فلم يستطع. طبعا لم يستطع.


ذكرت له أسماء في الأدب والفن والسياسة والاقتصاد والعلم صنعوا اسم مصر، في الفترة التي تلت محمد علي، وهو الاسم - لا ينتبه البعض - الذي لا نزال نتباهى به حاليا على جيراننا. قبل محمد علي لم يكن في القاهرة ولا مصر ما يدعو للفخر ولا التباهي، مجرد دويلة يتعاقب عليها خلفاء أغراب، بعد أن يتقاتلوا على أبوابها، ويحوز المنتصر كرسيها.



سألته ماذا فعل العثمانيون في مصر منذ دخلوها عام 1517؟ سألته ماذا فعل المماليك الذين حكموها قبلهم؟ سألته لماذا - حين غزانا الفرنسيون سنة 1798، قبل بضعة أعوام من تولي محمد علي - لم يكن لدينا طابعة ننافسهم بها، ولا مدفع نردهم به؟ لماذا إن كانت الخلافة - كما يقولون - مزدهرة وعظيمة؟


الدلائل كبيرة جدا على أن هذه الخلافة كانت نظاما سياسيا متخلفا، وبالتالي كانت وبالا على الدول التي تحكمها، كما كانت - إن قورنت بالإمبراطوريات المعاصرة لها - إمبراطورية متخلفة لم تنتج علما وأدبا وفلسفة وفنا كبريطانيا وفرنسا والإمبراطورية النمساوية.


ورغم هذه الدلائل نجح الإسلامجية في استخدام صفة "الإسلامية" لتحصين ذلك النظام السياسي من النقد، ولتحويله إلى مقدس من مقدسات الدين، لدرجة أن ننسى فشله وسقوطه، قبل 91 عاما، في 3 مارس 1924. بعض الذين يعيشون بيننا ولدوا قبل سقوط الخلافة.



الخلافة سقطت وشعاراتها السياسية لم تسقط، بل أخذت أشكالا أخرى. لا يزال العداء لغير المسلمين جوهر الخطاب السياسي الخارجي، ولا تزال الوحدوية المستبدة جوهر الخطاب السياسي الإقليمي، ولا يزال احتقار مصر وتاريخها وحضارتها العظيمة - الحقيقية - جوهر الخطاب السياسي الإسلامي محليا. ولا تزال السياسة عندنا تتأرجح بين الأبيض والأسود، بين الإيمان (الولاء) والكفر (الجحود بنعمة ولي النعم).



الدولة المصرية الحديثة، على الناحية الأخرى، حديثة عهد. لا بد ألا ننسى هذا. لا يزال أمامها الكثير كي تستقر مفاهيمها السياسية بعيدا عن الميراث السياسي القمعي المستبد الذي تركته الخلافة الدينية. من العجيب أن تركيا، بلد الخلافة، أعلنتها عالمانية مباشرة، وأن مصر لا تزال حتى الآن تستحيي من اللفظ. لا دولة حديثة في مصر أو غيرها بلا عالمانية. 91 عاما تكفي لكي نصل إلى هذه القناعة.