التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 07:16 ص , بتوقيت القاهرة

"الكيف" مسؤولية

لدينا مشكلة عميقة في الثقافة المصرية في فهم ارتباط مفهوم الحرية بالمسؤولية.

كثيرون يروجون لمفهومٍ مشوه لارتباطهما.. بترديد عبارات، لا علاقة لها بهذا، من أبرزها جملة يرددها الأخوة أو الآباء على مسامع أخواتهم أو بناتهم، مضمونها أنهم أعطوهن الحرية للعمل أو التعلم  أو الخروج وعليهن احترام ذلك، وإدراك أن حريتهن رهينة بالتصرف بشكل "مسؤول"، وبالطبع فالشكل المسؤول هو ما يوافق مزاج المجتمع، هذا المفهوم المشوه لا علاقة لنا به لأنه ليس تعبيرًا عن ارتباط الحرية بالمسؤولية، بل تعبير عن علاقة التسلط والتحكم في إناث الأسرة عبر سلبهن الحقوق ثم تحويلها إلى مِنحة مشروطة.

ولكن ارتباط الحرية بالمسؤولية هو مفهوم مختلف، أساسه أن كل فرد هو الأقدر على تحديد  أسباب سعادته، وأن هذه الأسباب تختلف بين الناس باختلاف مفضلاتهم؛ لذا يسعون لتحقيق منفعتهم الخاصة، وبالتالي فبحث كل منهم عن سعادته ومنفعته- التي تختلف عن غيره لاختلاف المفضلات- يجعله بالضرورة أكثر إدراكًا لمصلحته من أي شخصٍ آخر، وبالتالي فهو حر بالتصرف كما يشاء لتحقيق ما يراه مصلحةً له بشرطين اثنين، الأول: أن يتجنب الإضرار بالآخرين، والثاني: أن يتحمل مسؤولية أفعاله على نفسه.

على سبيل المثال، فالشخص الذي يجد سعادته في التدخين أو الكحول أو في الحياة الأسرية أو في العمل الخيري أو في التعبد أو في القراءة أو في المضاربة في البورصة.. إلخ، سيسعى لزيادة منفعته الخاصة عبر تنفيذ ما يُحقق سعادته بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، عبر السعي للحصول على أموال تُمكنه من تحقيق سعادته، وليس لأحدٍ هُنا أن يقومَ بدور الوصاية عليه أو أن يُحدد له ما يفعل وما يأكل وما يشرب وما يشاهد وما يلبس.. إلخ.

هو وحده من يُقرر لنفسه - طالما أفعاله لا تضر الآخرين - كالقيادة تحت تأثير مخدر – وهو وحده من يتحمل مسؤولية هذه الأفعال، ولو قادت لإفلاسه أو للإضرار بصحته أو لضياع وقته.. إلخ.. فليس من الممكن أن تُنفق أموالك كلها بالإقامة في الجناح الإمبراطوري بفندق ضخم ثم تستغيث من الإفلاس!  ولا أن تُطالب بقانون يمنع نزول أحد  في هذا الجناح إلا لو كانت ثروته مليار دولار على الأقل مثلا.. باختصار أنت سيد قرارك ولكنك تتحمل التبِعات كلها.

هذه المقدمة الطويلة ضرورية إذا أردنا الحديث عن ضريبة السجائر الجديدة، لأن موضوع التدخين دائمًا ما يتم استقباله بشكل غريب من مجموعات مختلفة:

1- فالذين يرون التدخين حرام شرعًا، يسعدون بأي ضريبة على السجائر باعتبارها وسيلة لتطبيق الشرع، ولهؤلاء نقول إن القانون ليس وسيلة تحريم وتحليل، بل وسيلة لتجريم مايضر بالآخر، وبالتالي فليست وظيفة القانون منع أي شيء تراه محرمًا طالما لا يضر الآخرين، بل وظيفته منع أي شيء نراه مجرمًا لإضراره بهم.

2- والذين يرون التدخين ضارًا صحيًا، يسعدون بأي ضريبة على السجائر باعتبارها ستفرض الصواب على الناس وتُقوّم سلوكياتهم الشخصية بالقوة، ولهؤلاء نقول إنه ليست وظيفة القانون إجبار الناس على الصواب أو الخطأ، ولا يجب أن يفترض القانون أنه أدرى من الناس بمصالحهم.

3- والذين يدعمون الإخوان أو ينتظرون قيام ثورة جديدة يسعدون بأي ضريبة عموما، باعتبارها تشعل لهيب الثورة، ولهؤلاء نقول «أصحاب العقول في راحة»، وإذا لم تستح فاصنع ماشئت.

4- وأخيرًا هناك الرافضون للقرار لأنهم من المزايدين باسم الأعباء على الفقراء.

وهذه الفئة الأخيرة تمارس الدجل باستمرار، فالكثير منهم غضب لأنه سيشتري سجائر محلية، بدلاً من المستوردة التي كان يشتريها. لاحظ تناقض هذا الشخص مع فكرة كان يرددها دائمًا بأنه يجب الأخذ من الأغنياء لإعطاء الفقراء.

فلو طبقنا هذه القاعدة بشكلها المُبسط على عالم المدخنين، سنجد الأغنى يُدخن السجائر المستوردة وقادر على الحصول على خدمة طبية جيدة غالبًا، بينما الأفقر يدخن السجائر المحلية وغير قادر على الحصول على خدمة طبية، فإذا أخذنا هنا جزءا من إنفاق الأعلى دخلاً على سجائره المستوردة، ومنحناه لخدمة طبية للأقل دخلاً، أليس هذا هو ما يطالب به دائمًا تحت لوحة العدالة الاجتماعية؟ ولماذا  لا يطبق شعاراته على نفسه؟ ولم يستأْ من اضطراره للحصول على سلعة سيئة بالقوة مراعاة للأفقر، بينما هو ينكر على الآخرين رفض ذلك؟

لأنه لا يقصد بحديثه عن العدالة الاجتماعية مجتمع المدخنين فقط، فهو يريد أن يأخذ من أغنى الأشخاص في المجتمع مبالغ ضخمة- سواء كانوا مدخنين أم لا - ليدفع بها تكاليف علاج الفقير، الذي يدخن السجائر الحكومية، وليدفعوا أيضا فارق الضريبة، الذي يُمكن المدخن من شرائح الطبقة المتوسطة، أن يدخن سجائر مستوردة بأسعار غير مرتفعة.

هذا ماتفعله الطبقة الوسطى في مصر باستمرار؛ نتيجة كونها مصنوعة من مجموعة من أصحاب الشعارات منتمين للطبقة المتوسطة، يعيشون بالهتاف ضد الفقر، ويبتزون الدولة دون إنتاج حقيقي، ليحافظوا على مستوى معيشتهم، ولو عبر سياسات اقتصادية فاشلة، تزيد الفقراء- الذين يتغنون بهم- فقرًا .

إذا أردنا أن نكون واضحين، فالسجائر لا تحمل أي سبب يجعلك تدفع ضريبة على استهلاكها تفوق بقية السلع، إلا سببين اثنين: الأثر البيئي، والأثر الاقتصادي للعلاج الطبي.

فبخصوص الأثر البيئي فإن حماية البيئة هي واحدة من الأشياء النادرة، التي لا تقوم فيها السوق بتصحيح نفسها، فالمصنع الذي يصنع منتجاته بشكل يلوث البيئة، قد تكلفه العملية الصناعية عشرة جنيهات - لو لم يتدخل أحد لإلزامه بحدود معينة-، في حين أن مصنعًا ملتزمًا بسياسات نظيفةقد تكلفه العملية الصناعية اثنى عشر جنيهًا، وبالتالي مع الوقت يفقد من يلتزم اختياريًا بنظافة البيئة تنافسيته ويفلس أو يتحول الجميع لتلويث البيئة، ومع الوقت سيزداد التلوث بشكل مضطرد لأنه لا يوجد أحد سيلتزم بمعايير مثل هذه في غياب التدخل الحكومي، لهذا السبب فمراقبة حماية البيئة دائمًا موكولة للدول والمنظمات، وبالتالي يحق للدولة فرض ضريبة على بعض الأنشطة إذا كانت أكثر تلويثًا للبيئة.

أما الأثر الاقتصادي للعلاج الطبي فهو نقطة مرتبطة بأول حديثنا عن الحرية والمسؤولية، فيحِقُ لكَ عزيزي الساخط أن تثور على ارتفاع الأسعار، عندما تكون مسؤولاً عن نفسك علاجيًا، ولا تحصل على خدمة- جيدة كانت أم رديئة-  من جهة كالدولة، أو عندما تدفع مقابلا أعلى لاشتراكك في الخدمة من نظرائك غير المدخنين، أما أن تختار التدخين لإرضاء مزاجك الشخصي ثم تطالب جارك بدفع فاتورة دخانك وعلاجك، فهو أمر هزلي يشبه أن تجلس في مطعم  لتشتري أجود الأصناف على حساب الطاولة المجاورة لك بالقوة، وبعد أن تنتهي من طعامك تطلب منه أن يدفع أيضا تعويضًا لعدم رضاك عن الطعام.

والغريب أن بعض هؤلاء الذين أراهم معترضين، كانوا يهللون لوضع أي مادة في الدستور تنص  في أولها على (تلتزم الدولة بـ...)، ويهللون لتحديد موازنة الصحة وغيرها بنسب ثابتة ومرتفعة، معتبرين هذه انتصارات رغم سخافة الفكرة وسخافة تحصينها دستوريًا أيضًا، فهل تريد عزيزي ابن الطبقة المتوسطة المتاجر بالفقراء أن تحصل على علاج للجميع  بخدمة أجود وبالإجبار دون أن تموله من جيبك، ولو بجنيهات تدفعها مقابل مزاجك في تلويث البيئة؟ أم أن كل شيء جميل وظريف طالما أنه بعيد عن محفظتك؟

تلك مرة أخرى هي المسؤولية، فعلى كل من يكلفنا تكاليف أكبر في التأمين الصحي( بشكل مباشر عبر مرضه هو أو ذويه نتيجة التدخين- أو بشكل غير مباشر نتيجة تلويث البيئة) أن يدفع مقابلاً لهذا ليضاف إلى موازنة التأمين الصحي التي طلب رفعها.

باختصار هذا هو ارتباط الحرية بالمسؤولية، وتلك هي فلسفة التشريع الطبيعية في القانون، وبغض النظر عن تأييد الزيادة أو رفضها، فيجب على من يؤيد ومن يعارض أن يأتيا بأسباب موضوعية بدلاً من الأسباب الهزلية التي تم ذكرها، وأن يدل موقفه على فهمه وإحساسه بطبيعة الأرقام.