التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 01:03 م , بتوقيت القاهرة

العلمانية في مصر وفرنسا وأمريكا

في الولايات المتحدة "جدار فاصل بين الكنيسة والدولة"، كما كتب جيفرسون مرة مُفسراً التعديل الأول على الدستور الأمريكي. إنه التعديل الذي يشير بوضوح إلى أن الدولة لا تتبنى ديناً رسمياً وأن حق الاعتقاد مصونٌ. جوهر العلمانية الأمريكية هي بقاء الدولة كياناً مُحايداً. الدولة لا دين لها. الوجه الآخر لهذا المبدأ هو أن الدولة لا تتدخل فيما يؤمن به الأفراد. لا شأن لها بذلك. لا يُضير الدولة أن يصير الناس أكثر إيماناً أو أقل. لا يعنيها في قليل أو كثير إن زاد عدد من يذهبون إلى الكنائس أو نقص. باختصار: الدولة ليست معنية بموقع الدين في المجال العام.


والحقيقة أن للدين مساحة كبيرة في المجال العام في الولايات المتحدة. ربما تكمن الجذور الأولى لذلك في نشأة المستوطنات الأولى في أمريكا كمهرب من جحيم الاضطهاد الديني في أوروبا. أمريكا أمةٌ من المتدينين "مدينة على تل". دُهشت عندما سمعت برنامجاً إذاعياً منذ شهور يتحدث عن صعوبة عمل الجماعات التي تحاول نشر الإلحاد في الولايات المتحدة. لا قبول بهذه الرسالة بين الأمريكيين الذين تؤمن أغلبيتهم الكاسحة بوجود الله، وترفض نزع الدين ومظاهره من الحياة العامة.


أمريكا اليوم أمة متعددة الأعراق والأديان. "التجربة الأمريكية" لا تعني أن تتخلى ثقافتك المحلية، أو دينك. لا تعني أن تُفرض عليك "قيم ثقافية" بعينها، باستثناء الخضوع للقانون واحترام النظام العام.

هذا النظام مُستمد من الفكرة البسيطة القائلة بأن حُريتك تنتهي عندما تُهدد حرية الآخرين (نعم إنها ذات العبارة الموجزة العبقرية التي كانت تُكتب على الغلاف الخلفي لكراساتنا وكتبنا المدرسية الحكومية!). باستطاعة الملايين أن يحملوا معهم ثقافاتهم وأديانهم إلى العالم الجديد. باستطاعة المسلمين أن يمارسوا طقوسهم، بل وأن يُباشروا الدعوة والتبشير للإسلام. لا شيء في هذا ضد التجربة الأمريكية. لا شيء في هذا يُزعج أمريكا.

في فرنسا الوضع مختلف. العلمانية الفرنسية تنصب تحديداً على المجال العام، وليس فقط على كيان الدولة. العلمانية جزء من الهوية الفرنسية ذاتها، كما صاغتها الثورة الفرنسية. هذه الأخيرة لم تكن تستهدف طغيان الملك والأرستقراطية فحسب، وإنما الكنيسة أيضاً. هذه الصيغة من العلمانية ترفض المظاهر الدينية في الملبس أو السلوك أو ممارسة الطقوس. من هنا تظهر الاحتكاكات، خاصة مع المسلمين الذين يشكلون 8% من السكان. تطفو التوترات من آن لآخر على السطح في صورة قضايا تتعلق بحظر ارتداء النقاب، أو منع بناء المآذن، أو إجبار البنات المُسلمات على السباحة في مسابح مُشتركة..إلخ.

الصيغة الفرنسية من العلمانية "إيجابية" إن شئت. هي ليست "حيادية" كمثيلتها الأمريكية. لا تكتفي بالفصل بين الدين والسياسة ولكن تحرص أيضاً على نزع الدين من المجال العام. الثقافة السياسية في فرنسا تعتبر العلمانية ركيزة المساواة والمواطنة. لا مواطنة حقيقية بدون علمانية كاملة.


في العديد من المدارس الفرنسية رفض الطلبة من المسلمين أن يقفوا دقيقة صمت حداداً على أرواح رسامي "شارلي إبدو" الذين قضوا في الحادث الإرهابي في يناير الماضي. الرئيس الفرنسي "هولاند" اعتبر أن ذلك تآكلاً للثقافة العلمانية، بما يعني عجز الدولة الفرنسية عن تحويل الأغلبية المُسلمة إلى مواطنين فرنسيين قبل أن يكونوا مسلمين.


تعهد "هولاند" بتدريس العلمانية بشكل مُكثف في المدارس الابتدائية. لن تكون هذه مهمة سهلة أو مضمونة النجاح. الكثير من المسلمين يعتبرون العلمانية مجرد أداة في يد الدولة الفرنسية لممارسة العنصرية ضدهم بشكل انتقائي. العلمانية بالنسبة لهم هي مرادف للعنصرية والحرمان من حقهم في أن يمارسوا "حياتهم الدينية" بصورة طبيعية.

هذان هما النموذجان الأشهر للعلمانية..فماذا عن النموذج المصري؟


أزعم أن النموذج الذي بشر به رواد النهضة في مصر في العشرينات والثلاثينات انطلق في الأساس من الأفكار الفرنسية (التي تأثر بها هؤلاء الرواد –مثل طه حسين وعلي عبد الرازق- بسبب ثقافتهم الفرانكفونية). مع ذلك، فسرعان ما اتخذت "الطبعة المصرية" من العلمانية صورة أقرب للنموذج الأمريكي، أي تلك العلمانية المُحايدة التي تنصب على كيان الدولة لا المجال العام.


كان حزب الوفد هو التجسيد الأبرز لهذه النظرة العلمانية "المخففة"، إن جاز التعبير. لم يكن الحزب معادياً للدين، ولا للمظاهر الدينية في المجال العام، بل إن الزعيم التاريخي الأبرز للوفد –مصطفى النحاس- كان مُتديناً إلى حد بعيد. ما وقف الوفد ضده بحسمكان خلط المجال السياسي بالدين، ومن هنا وُلد الشعار الجامع الذي صار أيقونة المواطنة: "الدين لله والوطن للجميع". إذا تأملت هذا الشعار وجدته أقرب للصيغة الأمريكية: الدولة كيان مُحايد لا شأن له بالدين، ولا شأن للدين به.


عارض الوفد انغماس الإخوان المسلمين في السياسة، كما عارض تلاعب الملك بالدين. وقف النحاس بقوة ضد فكرة تنصيب الملك فاروق في الأزهر لأنه رأى فيها- وعن حق- تداخلاً بين الدين والسياسة يضر بالاثنين معاً. وفي الواقعة الشهيرة- كما رواها لي قطبٌ من أقطاب الوفد القدامى- ذهب حسن البنا ليستأذن مصطفى النحاس في خوض الانتخابات، فما كان من النحاس إلا أن قال له: "تلعب سياسة أشيلك فوق دماغي...تلعب دين ح أديك بالجزمة!" ثم هتف:" قهوة هنا للشيخ حسن"، بما يعني أن المقابلة انتهت، وأنه لا مجال للتفاوض حول هذا المبدأ.


العلمانية المصرية تعرضت لتآكل مستمر منذ 1952. برغم أن ناصر تبنى نظرة علمانية للمجال السياسي، إلا أن عصره شهد بداية استغلال الخطاب الديني من جانب الدولة.السادات –كما نعلم- دخل في صفقة مع التيار الديني، وكانت تلك أكبر ضربة وُجهت للعلمانية في مصر. هنا، لم تعد الدولة ذاتها كياناً مُحايداً، بل صار لها شخصية دينية واضحة تم النص عليها في دستور 71، ثم أُضيف بُعد ديني آخر بالنص على الشريعة كمصدر أساسي للتشريع في تعديل اُدخل على الدستور سنة 1981.


استمر هذا التوجه في عهد مبارك. الدولة فقدت علمانيتها بشكل مُتزايد. على أن الخسارة الأكبر تمثلت في تسليم المجال العام بصورة شبه كاملةللإسلاميين (الأمر الذي يحلو للكثيرين التدليل عليه –من باب التبسيط- بانتشار الحجاب بين النساء والفتيات). صار الإسلاميون هم من يضع الأجندة ويحدد الخطاب. مهد ذلك للمشهد الذي رأيناه في مصر بعد سقوط مبارك من فوز التيار الديني بجميع الاستحقاقات الانتخابية.


ما نواجهه الآن في مصر هو "مجال عام" متأسلم على نحو كامل تقريباً. لا مناص من تدخل من الدولة لتصحيح هذا الوضع الخطير. لا مهرب من إجراءات "تدخلية" على الأقل في المرحلة التأسيسية. على عاتق السلطة الحالية مهمة جسيمة: تصحيح أخطاء ستين عاماً من التداخل الضار بين الدين والسياسة، انتهت بسيطرة شبه كاملة للدين على المجال العام.


برغم أنه لا رفاهية لدينا لممارسة "العلمانية على الطريقة الأمريكية" في هذه المرحلة (مرحلة إعادة بناء الحائط الصلد الذي يفصل بين الدين والدولة)، إلا أن النموذج الذي نسعى إليه في النهاية لا ينبغي أن يبتعد كثيراً عن ذلك الذي بشر به الآباء الأوائل لليبرالية المصرية: حيادية الدولة وعلمانيتها، مع ترك المجال العام للناس يُمارسون فيه معتقداتهم بلا تدخل أو إكراه أو محاولة لفرض رؤية مُعينة للدولة.


المُعادلة التي صكها النحاس باشا تبدو عملية جداً في هذا المقام. للأسف، في مجتمع كمجتمعنا يصعب رسم الخطوط الفاصلة بين الدين والسياسة بدون استخدام "الجزمة"!