طبقات رديم الوطن
ربما لم يكن هناك رابط مباشر ظاهر بين وجود غطاء البيّارة الخرساني المُنكسر بشارع جانبي بمدينة إقليمية صغيرة، بفعل توقف السيارة الربع نقل المتكرر فوقه، وبين انتقال ميراث الأجداد الفراعنة لأجيال متعاقبة من الحَفَدة، فالغطاء الخرساني الذي صنعه أهل الحيّ بمجهود ذاتي لتغطية فوهات حجرات محابس المياه العمومية المقابلة لمنازلهم.. لفت نظري أنه قد ارتفع منسوبه عدة مرات في مواقف متعددة عبر عشر سنوات.
لسببٍ ما المصريون لا يحافظون على مستوى شوارعهم ثابتا، هم باستمرار في حالة ارتفاع، لذلك فهناك خشية دائمة من ردم بيوتهم أسفل مستوى الطريق، ينتشر هذا بعيدا عن تدقيق العدسات، علامَ يخشون أكثر من بيوتهم؟!
يحدث هذا باستمرار بريف الدلتا المزدحم بسكانه، وبمدن الأقاليم، وربما ببعض الأحياء الشعبية بالعاصمة، لكنّه شديد الوضوح بالأقاليم.
المصري في العموم لا يهتم بخراب شيء أكثر من بيته، ولكنّه هنا يردم باستمرار فيما يقابل منزله، بما يعرضه لخطر الاندثار أسفل الطبقات المتراكمة. منازل كثيرة بالدلتا اقترب منسوب الشارع بها من طابقها الثاني، واضطر أصحابها إلى الارتفاع بمستوى عتب باب المنزل الخارجي، كي يتمكنوا من دخول بيوتهم دون انحناء
الأمر لا يقتصر على الأفراد، فأجهزة الحكومة المحلية تلجأ لنفس الفكرة، حيث تقوم بإعادة رصف الشوارع بشكل متكرر عبر سنوات متباعدة، وذلك بالارتفاع بمنسوبها، وإضافة طبقات جديدة من الجير والزفت، والغريب في الأمر أن اعتراض الأهالي على الأمر شبه منعدم، لا يتناسب مع الخطر الداهم بمنازلهم!
جربت مرّات أن أستثير خيال بعضهم، بخطورة ارتفاع مستويات الشارع، حتى سيأتي يوم يصبح الطابق الثاني هو أول طوابق المنزل، لافتا نظرهم نحو إمكانية كشط الطريق قبل تعبيده، والمحافظة على منسوب ثابت للشارع، فأجد بعض التمتمة لغير المقتنعين، لا تُنِّم عن غضب قدر ما تُنّم عن رغبة تمرير اللحظة سريعا.. شيء ما غامض في الأمر!
مشهد متكرر عاصرت أحداثه مرارا، حيث عملية رصف شوارع أحياء متفرقة بالأسفلت، قامت بها أجهزة الحكومة، وفور الانتهاء من الرصف، وبينما الأسفلت ما زالت جزيئاته ساخنة بفعل الزفت الملتهب، يسرع أهل الحي لشراء أمتار مكعبة من الرمال ونثرها فوق الأسفلت الأسود الفاحم حتى يستحيل أصفر، وتكون هذه البداية بمثابة أول مسمار في نعش الطريق المجدد المستوى، حُجة الأهالي هنا، هو سد ثغرات الأسفلت، ولا أدري للفكرة مصدرا، لكن الأهالي تناقلوا الفكرة ونفذوها على مدى ربع قرن بشكل متكرر، حتى أصبحت حقيقة ثابتة.
الفعل يقوم به أهل الحي في حضور رجال الإدارة المحلية، ومسؤولو الأحياء لم يغادروا الشارع بعد، فعلى أعينهم يُكمل الأهالي عمل الحكومة ويتممونه، ورغم ما في الفعل من خروج عن المألوف، واستكمال عمل ليس من وظيفتهم، إلا أن هناك اتفاقا ضمنيا على مشروعية العمل وتمريره دون مساءلة!
بمواقف سابقة تمت مطالبة نفس أفراد الحي ممن اشتروا الرمال من نفقاتهم، أن يتبرعوا بجنيهات معدودة نظير تنظيف الحي وإزاحة المتراكمات والرديم من الشارع، فكان الرفض قاطعا من عدد كبير منهم، رفض صارم.. رفض يعني أن تفهم أننا وجب علينا الارتفاع وليس الكشط!
عقب كل مرة يتم فيها تسوية الشوارع، يشرع صاحب كل منزل في عمل صبّة أسمنتية مواجهة لمنزله، بحجة عدم تراكم مياه المطر أمامه في فصل الشتاء، فإذا ما واجهته بغياب الأمطار عن البلاد تقريبا وندرتها الشديدة، تكون الإجابة: لتكن للحماية من مياه الصرف الصحي إجابة قاطعة للنقاش، واجبة التنفيذ، تشعرك بالخجل من ضحالة معلوماتك ولتدخلك السخيف فيما لا شأن لك به.
الجار المقابل أيضا يصنع لنفسه مصطبة أسمنتية مماثلة تقابل منزله، يتجنب بها تراكم المياه ذاتها أمامه، والتي ستهرب ولا شك من أمام منزل جاره المقابل، وتستقر أمام بيته هو المسكين، مهددة جدرانه بتشرب الرطوبة، وينتهي الحال بعودة الشارع إلى نمطه القديم قبل الرصف، بعد ارتفاع الجانبين، ثم استخدام الرديم للحماية من مياه الصرف الصحي التي ستظهر يوما، وسيتبقى من الشارع فقط جزء بسيط بمنتصفه كأخدود مستو، يتولى الزمن إنهاكه، ويعود الشارع لسابق حاله.
ثم تعود الدائرة بأن تأتي أجهزة الحكومة للقيام بالرصف والردم فوق كل ما تم ردمه مسبقا بواسطتها وواسطة الأهالي. ينفق هنا السكان طوعا على التشويه وتدمير السطح المستوي للشارع، ما رفضوا من قبل أن يصرفوه على النظافة والتجميل!
شيء ما يخبئه المصريون أسفل بيوتهم وشوارعهم، قد تكون فكرة الستر، وقد تكون كنوز الأقدمين وحضاراتهم المتعاقبة، قد تكون أسرار الحكمة التي يخشى المصريّ ظهورها في زمن ليس بالمناسب، وقد تكون فكرة "الخزين" المتوارثة وقد تكون "اكفى ع الخبر ماجور" وعدم الرغبة في فتح ملفات قديمة، فأسفل هذا الرديم مئات الملفات والأوراق التي خططت ورسمت ووضعت ميزانيات لرصف الشوارع وتمهيدها، ومئات التأشيرات الحكومية المتناقضة التي وافقت على مأموريات في اتجاهات متعاكسة، وعشرات الأشياء التى اختفت من بيوت أصحابها أو ألقيت عمدا من شرفاتهم، لكن في النهاية يتفق كثير من الأهالي مع موظفي الدولة على إتمام فعل الردم والإخفاء، انتظارا ليوم مؤجل، قد تسفر فيه الأرض عما تحتويه، أو يوم تبعث الأرض من احتوت جثامينهم.
المصري ليس أعز لديه من بيته سوى قبره، لكنّه هنا قد يُمرر بعض الضرر المنتظر لبيته، ويتقبل برضا تام تحويل الشوارع لمقابر يرتفع منسوبها باستمرار حتى يتحول بيته لما يشبه الشاهد عليها، شاهد قبر يحمل اسم صاحبه الحي، ربما هكذا حافظت الأرض على ما وصلنا من تراث الأجداد وكنوز الحضارات المتعاقبة، التى تُكتشف ببعثات الحفر والتنقيب، وأصبح من أحلام الكثيرين أن تنقلهم خبيئة ما إلى مستوى حياة أكثر تنعما. هذا النعيم المنتظر ارتبط بما تخبئه الأرض، فكما أن تحت القبة بالضرورة شيخ، فغالبا تحت الأرض كنز متروك، فليظل الحلم قائما.
وربما يكون هذا كله مُخزّن بداخل نفس المصريّ، ولا يدري له سببا محددا، قدر ما تريحه هذه التراكمات، التراكمات التي تخفي أكثر ما تُظهر، الاستواء ضار بصاحبه، يؤمن المصريّ بأن: "كذب مساوي ولا صدق منعكش".
هكذا الأمور الواضحة المستوية تضع صاحبها في مجال الشك، كونه بعيدا عن منظومة الستر والالتواء السائدة. منظومة الإخفاء أسفل طبقات الرديم، كل من حاول كشفها يصبح منبوذا، فضوليا، متلصصا، مدفوعا بدوافع مريبة مهما كانت نيته طيبة. يجتمع على رفضه موروث الأهالي وبروتوكلات الأجهزة الحكومية، فإذا حاولت أن تخالف شيئا اتفق على إتمامه الأهالي والحكومة من دون وثيقة إشهار، فاعلم أنك هالك دون إتيان أمرك، أو هكذا أظن.