التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 03:11 م , بتوقيت القاهرة

الحرب على الإرهاب: مكاسب جانبية

الناشط السياسي السيناوي، وعضو لجنة الخمسين لكتابة الدستور، مسعد أبو فجر، كتب ستاتس على فيسبوك يقول فيها: "للي بيسألوني، ماذا يحدث في سيناء؟. ما يحدث هو تدمير ممنهج وواسع ومتعمد لكل أشكال الحياة.. أما من يحملون السلاح ضد الدولة، فلا أحد في إمكانه الاقتراب منهم. فهم متحصنون في زروب تحت الأرض، لا سبيل لتحديد مكانها ولا بالأقمار الاصطناعية. ولا سبيل لتدميرها حتى بالقنابل النووية. وهم يخرجون من تلك الزروب في الليل يضربون ثم يعودون.. طيب والحل؟. الحل هو ان تدخل القبائل في المعركة.. والدولة لا تريد القبائل سوى جواسيس.. والقبائل بيشوفوا إن الدولة هي اللي مفروض تشتغل عندهم جاسوسة.. مش هم يشتغلوا عندها جواسيس".

 

 

 

 

 


                
هذه الستاتس الفيسبوكية صورة لاختلاف تقييم الشيء باختلاف موقعك منه.

بالنسبة لمسعد أبو فجر، وأهالي سيناء، الموضوع واضح. الخسائر "الجانبية" لسياسة ملاحقة الإرهابيين أمنيا أكبر من المكاسب المنتظرة منها. أو على الأقل، لا تبرر المكاسب المنتظرة منها. بعض أسبابه واضحة لا تحتاج لشرح، لأن وجود عملية عسكرية كبرى في محيط سكني لن يكون سوى وبال على السكان.

لكن من الناحية الثانية، وبالنسبة لمصريين من غير السيناويين، نفس الستاتس توحي أولا بأن الأنفاق التي ينطلق منها الإرهابيون، والتي تعجز عنها الأقمار الصناعية والقنابل النووية، معلومة فقط لدى أهل قبائل سيناء. وتوحي ثانيا بأن القبائل تساوم الدولة بهذه المعرفة. والخلاف بينهما على من يقود الحرب. "الدولة لا تريد القبائل سوى جواسيس. والقبائل بيشوفوا إن الدولة هي اللي مفروض تشتغل عندهم جاسوسة".

وهو ما يعني - بالنسبة للمواطنين العاديين من أمثالنا - أن سيادة الدولة المصرية متنازع عليها في منطقة كبرى، وحساسة، وحيوية للأمن القومي، بحجم شمال سيناء.

ثم إنه يعني - بالنسبة للعاديين من أمثالنا أيضا - أن أمن مصر القومي لدى بعض قبائل سيناء صار مادة مساومة.

وفي حين أن أستاذ مسعد أبو فجر في واقع الأمر يريد أن يشرح الأمر من وجهة نظر أهل سيناء، فإن تفهمه سيبقى غالبا حكرا على أهل سيناء، بسبب هذه الجملة. "القبائل بيشوفوا إن الدولة هي اللي المفروض تشتغل عندهم جاسوسة". جملة كتلك ستشعر غير السيناوية من المصريين بأن الدولة "مظلومة" مع قبائل سيناء. لأنهم يطلبون ما لا يطلب. يطلبون تكريس سلطتهم كسلطة أعلى من سلطة الدولة.

هذا ينقلنا إلى القضية التالية: هل في مصر دولة مكتملة فعلا؟ 

الجملة المحفوظة تقول إن مصر دولة منذ سبعة آلاف سنة. والحقيقة أن تلك إجابة مضللة. المقصود هنا هل مصر "دولة حديثة"؟ هل مصر "دولة" مكتملة حسب التعريف المعاصر لكلمة دولة؟ 

أحداث السنوات الأربع الماضية كشفت ما كان مستترا، وحسمت ما كان مادة للجدل و"الإكليشيهات". بعض القبائل والعائلات تضع أحكامها العرفية فوق سلطة القانون، وبعضها لا تعترف بسلطة الدولة على أراضيها. هذا يعني أنه مع اختلاف الظروف والتفاصيل، فإن الفكرة العامة مشتركة بين تلك العائلات والقبائل وبين الجماعات الإسلامجية: عدم الاعتراف بسلطة الدولة، والسعي إلى تحديها. ناهيك عن أن بعض القوى السياسية لم تفهم حتى الآن هذا الفارق بين معارضة سلطة، وبين الكفر السياسي بدولة. مصر إذن دولة في طور الانتقال إلى دولة حديثة. وهناك "غرض مشترك" بين عدة قوى داخلها على عدم السماح بذلك.

ليس غرض المقال أن أنتصر لوجهة نظر، وإن كانت لي وجهة نظر أظنها واضحة. بل غرض المقال العكس تماما، أن أنبه الفرق المختلفة إلى تباينات وجهات النظر، التي لن يحسمها سوى موقعك من فكرة الدولة، ليس في الموضوع يمين ويسار، ولا صواب وخطأ. لو كنا نسعى إلى دولة "قبائل"، فلدى السيناوية وغيرهم مطلق الحق في رفض سلطة الدولة، والمطالبة بأن تتم الحرب تحت قيادتهم. أما لو كنا نسعى لدولة حديثة، فلدى أنصار الدولة الحديثة مطلق الحق في اعتبار هذا المنطق السيناوي تحديا غير مقبول لسلطة الدولة. وبالتالي فإن هذا المنطق سيفقد السيناوية تفهما لجوانب أخرى في الحرب على الإرهاب هم محقون فيها.

لقد مر العراق بتجربة شبيهة. ولم يستطع أن يقف أمام إرهابيي أبو مصعب الزرقاوي إلا رجال العشائر (قوات الصحوة)، لكن الموضوع لم ينجح تماما. هذا ما اكتشفناه لاحقا. كيف؟ 

لأنه حل مشكلة "جماعة الزرقاوي" مؤقتا، ولم يحل المشكلة السياسية نفسها، مشكلة "سلطة الدولة". وفي المرة التالية التي حدث فيها خلاف مع الدولة ظهر "داعش" بديلا عن الزرقاوي. ثم صارت تلك لعبة محفوظة في منطقتنا السعيدة: إن كان لديك مع الدولة مشاكل، دع ميليشيا تعمل في أرضك، ساوم الدولة عليها.

في الحرب على الإرهاب "خسائر جانبية" كثيرة، لا يمكن لأحد أن ينكرها أو يقلل من شأنها. لكن فيها أيضا "مكاسب جانبية" لو تمت: أن تمتد سيادة الدولة (كدولة وليس سلطة معينة) على الجميع، جماعات وقبائل وعشائر وعائلات، وأن يعلم المصريون أن التهاون في هذا، أو المساومة عليه، له ثمن غال، سندفعه جميعا، لكن الجزء الأكبر منه سيدفعه المساومون.