التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 08:25 ص , بتوقيت القاهرة

سوط عذاب وصوت رحمة

يتخبّط الناس بين شيوخ الدين ما بين وسطيّ وسلفيّ ووهابيّ وأزهريّ وأيهما أقرب للإسلام، فكان لزاماً أن نتعرف على السابقين قبل أن تجتاح الفِرّة العالم الإسلامي، ويختلط الحابل بالنابل، نتذكرهم ونستهل من سيرتهم العطرة العِظة والعِبرة وسماحة الإسلام، قبل أن يجتاحنا تتار الشيوخ الذين لا نعرف من أي جهة طلوا!!


الشيخ محمد رفعت أحد القُراء المصريين البارزين المُلقب بـ " المعجزة " و" قيثارة السماء "، ولد الشيخ الجليل عام 1882 ميلادي بحي المغربلين بالقاهرة، وتُوفي في عام 1950.



كان الشيخ محمد رفعت من أول من أقاموا مدرسة للتجويد الفرقاني في مصر فكما قيل: القرآن نزل بالحجاز وقُرأ بمصر، وكانت طريقته تتسم بالتجسيد للمعاني الظاهرة للقرآن الكريم وإمكانية تجلي بواطن الأمور للمتفهم المستمع بكل جوارحه لا بأذنه فقط، والتأثر والتأثير في الغير بالرسالة التي نزلت على سيدنا محمد خير البرية صلى الله عليه وسلم.


 فقد كان الشيخ محمد رفعت يبدأ بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم والبسملة والترتيل بهدوء، وبعدها يعلو صوته، فهو خفيض في بدايته ويصبح بعد وقت ليس بالطويل عالياً، لكن رشيداً يمس القلب ويتملكه ويسرد الآيات بسلاسة وحرص منه واستشعار لآيات الذكر الحكيم.



كان جُلُّ اهتمامه بمخارج الحروف، وكان يعطي كل حرف حقه، ليس كي لا يختلف المعنى، بل لكي يصل المعنى الحقيقي إلى صدور الناس، وكان صوته، رحمه الله، رخيماً رناناً، وكان ينتقل من قراءة إلى قراءة ببراعة وإتقان، وبغير تكلُّف بعكس القارئين الذين خلفوه، الذين يفتخرون بذلك ويتمادون في ذلك بطريقة مُبتذلة زائدة عن الحد، وكان صوته يحوي مقامات موسيقية مختلفة، وكان يستطيع أن ينتقل من مقام إلى مقام دون أن يُشعرك بالاختلاف.



كان الشيخ محمد رفعت قوياً رقيقاً خاشعاً عابداً لله يشهد بوحدانية الله وصمديته، فهو رجلٌ خشع قلبه فخشع صوته، فتجد الناس تبكي وتخشى الله عند ذكره لآيات الترهيب، وتفرح بذكره آيات الترغيب لذا سمي بسوط عذاب وصوت رحمة، وعند سرده للقَصص القرآني يتفكرون في الآيات ويتدبرونها ويعتبرون منها، أما عندما يتصدق، أي يقول صدق الله العظيم، يندمون على بُعده، ويتمنون لو استمرت تلاوته أبد الدهر، فهو صوتٌ من الجنة يدركه المستمع العادي وعاشق القرآن.



 ولد الشيخ محمد رفعت في 9 مايو 1882 بحي المغربلين في القاهرة، وفقد بصره صغيرًا، وهو في سن الثانية من عمره فقد، كان جميلاً جداً عند ولادته يقال حسدته إحدى السيدات فقالت: له عيون ملوك ويستيقظ الطفل في اليوم التالي على ألم في عينيه وعدم قدرته على الإبصار، وأصيب بالعمى نتيجة مرض أصاب عينيه.


حفظ القرآن في سن الخامسة، حيث التحق بكُتاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بالسيدة زينب ودرس علم القراءات وعلم التفسير ثم المقامات الموسيقية، ودرس الموسيقى مثل موسيقى بتهوفن وموزات وفاجنر، وكان يحفظ العديد من السيمفونيات الموسيقية، ثم تُوفي والده محمود رفعت، الذي كان يعمل مأمورا بقسم شرطة الخليفة، وهو في التاسعة من عمره، فوجد الطفل اليتيم نفسه مسؤولاً عن أسرته، وأصبح عائلها الوحيد، فلجأ إلى القرآن يعتصم به، ولا يرتزق منه.


 تولى القراءة بمسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب سنة 1918 وهو في سن الخامسة عشرة، فبلغ شهرة ونال محبة الناس، وافتتح بث الإذاعة المصرية سنة 1934، وذلك بعد أن استفتى شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري عن جواز إذاعة القرآن الكريم، فأفتى له بجواز ذلك، فافتتحها بقول من أول سورة الفتح " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ".



 ولما سمعت الإذاعة البريطانية "بي بي سي العربية" صوته، أرسلت إليه وطلبت منه تسجيل القرآن فرفض، ظناً منه أنه حرام لأنهم غير مسلمين، فاستفتى الإمام المراغي، فشرح له الأمر وأخبره بأنه ليس حرامًا، فسجل لهم سورة مريم.


تنافست على تلاوات الشيخ العديد من المحطات الأجنبية مثل إذاعات برلين ولندن وباريس وذلك إبّان الحرب العالمية الثانية لتستهل افتتاح برامجها العربية بصوت الشيخ محمد رفعت، حتى تجذب أكبر عدد من المستمعين، إلا أن الشيخ كان عفيفاً متواضعاً لا يرضى أن يتكسّب من وراء القرآن، وكان يرى أموال الدنيا عرضا زائلا.


يروى عن الشيخ محمد رفعت أنه كان رحيماً رقيقاً ذا مشاعر جياشة عطوفاً على الفقراء والمحتاجين، وكان يطمئن على فرسه كل يوم ويوصي بإطعامه، ويروى أنه زار صديقاً له قبل موته فقال له صديقه من يرعى فتاتي بعد موتي !! فتأثر الشيخ بذلك وفي اليوم التالي والشيخ يقرأ من صورة الضحى حتى وصل إلى قوله تعالى: " فأما اليتيم فلا تقهر"، فتذكر الفتاة وانهال في البكاء بحرارة، ثم خصص مبلغاً من المال للفتاة حتى تزوّجت.


كان منزله بمثابة منتدى ثقافي صغير جمع فيه تشكيلة من فئات الشعب المختلفة، وكوكبة من رجال الأزهر والفنانين أمثال عبد الوهاب وأم كلثوم وليلى مراد ومحمد التابعي حتى نجيب الريحاني كان يحب الجلوس معه في بيته، وكانت تدور بينه وبين أهل الفن والأدب والدين العديد من المناقشات الفنية والفكرية.


أصيب الشيخ محمد رفعت في عام 1943 بمرض سرطان الحنجرة، الذي كان معروفاً وقتئذٍ " بمرض الزغطة "، سبحان الله كم من أناس تملأ حناجرهم الدنيا جعيراً بلا فائدة، ولكن الله أحب الشيخ فامتحنه في حنجرته وتوقف عن القراءة، بالرغم من أنه لم يكن يملك تكاليف العلاج، إلا أنه اعتذر عن قبول أي مدد أو عون ألح به عليه ملوك ورؤساء العالم الإسلامي، وكانت كلمته المشهورة "إن قارئ القرآن لا يُهان ".


أما عن ثروة الشيخ محمد رفعت فكان لا يملك من حطام الدنيا إلا بيته في حي البغالة في السيدة زينب والمكون من ثلاثة طوابق، وقام بتأجير طابقين منه ليستعين بالإيجار على مطالب العيش، كذلك كان يمتلك قطعة أرض بشارع المنيرة اضطر لبيعها للإنفاق على علاجه.


وفارق الشيخ الحياة في 9 مايو، نفس اليوم الذي ولد فيه، في عام 1950 رحمة الله عليه.


وصف الموسيقار محمد عبدالوهاب صوت الشيخ محمد رفعت بأنه ملائكي، يأتي من السماء لأول مرة، أما علي خليل ( شيخ الإذاعيين ) فيقول عنه إنه كان هادئ النفس، تشعر وأنت جالس معه أن الرجل مستمتع بحياته وكأنّه في جنة الخلد، كان كياناً ملائكياً ترى في وجهه الصفاء والنقاء والطمأنينة والإيمان الخالص للخالق، وكأنه ليس من أهل الأرض.


 أما الشيخ الشعراوي فقال: "إذا أردت أن تستمع إلى الصوت الجميل فاستمع إلى الشيخ عبدالباسط عبدالصمد فصوته حلو، وإذا أردت أن تستمع إلى فنون التلاوة فاستمع إلى الشيخ مصطفى إسماعيل، وإذا أردت أن تتعلم تلاوته فاستمع إلى الشيخ الحصري.. وإذا أردت أن تستمع إلى كل هؤلاء فاستمع إلى صوت الشيخ محمد رفعت".


نعت الإذاعة المصرية الشيخ محمد رفعت عند وفاته إلى المستمعين بقولها: " أيها المسلمون فقدنا اليوم علماً من أعلام الإسلام "، أما الإذاعة السورية فجاء النعي على لسان المفتي حيث قال: " لقد مات المقرئ الذي وهب صوته للإسلام ".


إلى الآن الأمة الإسلامية لا تنسى هذا الصوت القادم من الجنة حتى بعد وفاته بخمسة وستين عاماً، فللقرآن حلاوة ومع صوت الشيخ محمد رفعت تزيد الحلاوة، اللهم اجعله في ميزان حسناته وارحمه رحمة واسعة.


- المصدر : موقع الشيخ محمد رفعت
              موقع قراء القرآن الكريم