التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 11:46 م , بتوقيت القاهرة

هكذا تعذبنا حكوماتنا (1)

<p><span style="color:#FF0000;">دعونا نتحدث قليلًا عن التعذيب في مصر.</span><br />لن أتطرق إلى الحديث عن المساجين السياسيين، ولا المعتقلين الذين بُحَّت أصوات الحقوقيين في المطالبة بتحريرهم، بل سأتحدث عن التعذيب الذي نعيشه يوميًّا، حتى أصبح أسلوب حياة نشعر أننا على طبيعتنا ونحن نعانيه، ونستغرب إذا غاب عنا.</p><p>لو نظرنا إلى فرحتنا الطفولية عندما نعثر على وسيلة مواصلات بسهولة، أو نجد الطريق مفتوحًا، أو حتى نجلس بجوار النافذة في الميكروباص، فسنجد أن طباعنا كمصريين أصبحت مهيأة للتعذيب النفسي ليلًا ونهارًا، حتى أن أشكال الراحة البديهية التي تحظى بها دول العالم الطبيعية المتحضرة، صارت مبعث سرورنا لدرجة الاحتفال!</p><p>منذ سنوات، قررت إحدى حكوماتنا الموقرة إحاطة ميادين وسط البلد وأرصفتها بسياج حديدي طويل قبيح أخضر اللون، يحيل الشوارع سجنًا كبيرًا.. ولا أستطيع أن أحصي مقدار الضيق الذي شعرت به – ولا أزال – كلما مررت بهذا السور الذي يسجنني عن عبور الطريق، ويضطرني للسير مسافة طويلة لأمر من مكان إلى آخر.</p><p> ولا أستطيع تذكر كم مرة دعوت على صاحب هذه الفكرة أشنع الدعاء، لكنني أتساءل حتى اليوم عن سبب هذا السجن السخيف! تنظيم المرور.. هأو؟. منع الناس من عبور الشارع؟.. الرجال والشباب يقفزون من فوقه بكل بساطة، ولا يتضرر منه إلا النساء وكبار السن وذوي الإعاقة. خنقنا في عيشتنا؟ يا أخي والله العظيم مخنوقين لدرجة تكفي شعبين كمان.</p><p>وفي محطات المترو، سنجد أن المشهد المعتاد هو منفذين على الأكثر يعملان لبيع التذاكر، من أصل خمسة أو ستة، والباقي مغلق لسبب يعلمه رب العالمين، وهكذا يحتشد البشر في منفذ يتيم، ثم يسرعون إلى الماكينات ليجدوا اثنتين فقط تعملان، أما الباقي فخارج الخدمة، أو تم تحويله إلى ماكينات متطورة، تضاعف سعر الاشتراك فيها لدرجة جعلته حلمًا بعيدًا بالنسبة إلى كثيرين، وتجعل كثرة هذه الماكينات "مسخرة" حقيقية.</p><p>ثم تتكرر المأساة عند مغادرة المترو، لأن المَخرج صغير جدًّا، يتدافع منه الناس ككتاكيت تهرب من عشة خانقة، وبالطبع لا توجد سلالم متحركة تعمل، ولا مصاعد في الخدمة، ناهيكم بمأساة محطة الشهداء، التي صارت معبدًا مقدسًا للسرقات والتحرش، ومحطة أنور السادات المغلقة منذ عام ونصف، دون أدنى احترام لمعاناة المواطنين اليومية.. فالحكومة مشغولة بأمور أكثر أهمية من تعبنا ومعاناتنا، والتحرش بأجساد النساء وانتهاك كرامتهن في الزحام، الحكومة تملك من الوقاحة ما يكفي لتتجاهل كل هذه المهازل، وتناقش سعر تذكرة المترو!</p><p>أما إذا قررنا ركوب الميكروباص، فالتعذيب يتخذ شكلًا آخر، من طرق غير ممهدة يبدو أننا سنموت قبل أن نحظى بسواها، وطرق محورية بالغة الازدحام لسبب مجهول غالبًا، وسائقي ميكروباص لا يردعهم رادع، فيرفعون الأجرة على مزاجهم، ويسيرون عكس الطريق، ويغيرون مسارهم ليلقوا الركاب في أقرب بالوعة، ويعودون لأخذ غيرهم، مستغلين عدم وجود شرطة تضبط مساراتهم، أو تقف لهم بالمرصاد.</p><p>وفي المصالح الحكومية تعذبنا الحكومة بعشرات الإجراءات التافهة التي لا معنى لها، وبتعيين أشكال تسد النفس تبدأ يومها بتقديم القرابين لآلهة البيروقراطية، وتقسم على بهدلتنا بكل شكل ممكن، وبالطبع سيتكرر مشهد شباك المترو اليتيم المزدحم، في حين تنعم خمسة أو ستة شبابيك بفراغ عظيم، ويجلس خلفها الموظفون في تراخٍ، ويخبرونك بكل فشخرة: "مش بنشتغل، روح للشباك اللي هناك".</p><p>وهكذا، تنظر إلى الناس وهم سائرون في الشوارع لتجد الهم وقد ركبهم من "ساسهم إلى راسهم"، الوجوه كالحة كئيبة، وأبسط التصرفات قد تجعل من أمامك ينفجر.</p><p>وفي المقابل، تحمل لهم "مفاجآت" الحياة التافهة، كالمترو الهادئ، أو المقعد الشاغر، أو الطريق المفتوح، أو الورقة الحكومية التي انتهت في وقت قياسي، بهجة ما بعدها بهجة.. يخطئ البعض في اعتبارها بساطة، والحقيقة أنها بؤس خام.</p><p>شيء بائس أن تصير الحقوق الأساسية، البديهية، أقصى ما نطمح إليه في يومنا، ليخفف وطأة ما نعانيه في كل مكان، ولو لدقائق.</p><p><br /><span style="color:#FF0000;">وللتعذيب بقية.</span></p><p> </p>