التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 05:14 م , بتوقيت القاهرة

"النوفيلا" أو الرواية القصيرة..الفن المهجور لصالح الغش التجاري فى الأدب

في روايته القصيرة "الحمامة"، يحكي الروائي الألماني باتريك زوسكيند عن "جوناثان نويل"، تلك الشخصية العجيبة التي تعاني من هواجس، ومخاوف عديدة، يستمتع بغرفته الضيقة، التي يعيش فيها عزلته، يستمتع برتابة حياته اليومية، والتي يؤثر فيها وحدته، على مخالطة الناس، أنه "جوناثان" الذي توصل إلى حقيقة مفادها أن الناس لا يمكن الوثوق بهم، أو الاعتماد عليهم، وأن المرء لن يجد الطمأنينة والسلام في حياته إلا إذا نجح في الابتعاد عنهم، خاصة بعدما أصبح مثار سخرية الناس، وتفكههم.


عدد صفحات رواية "زوسكيند" لا يتخطى التسعين صفحة في بعض الترجمات الصادرة للرواية، وفي البعض الآخر لا تتخطى الثمانين، وهي من أجمل الأعمال الروائية التي كتبها "زوسكيند" صاحب رواية "العطر" الشهيرة، التي تحولت إلى فيلم بنفس الاسم، كذلك هي من أجمل الأعمال التي تنتمي لفن النوفيلا، الفن الذي هجره كُتاب كثيرون هذه الأيام، لصالح الرواية المتخمة، المعقدة، التي تصل صفحاتها إلى 300 أو 400 صفحة.  


"النوفيلا" أو الرواية القصيرة..الفن المحبب المهجور لصالح الرواية المتخمة، أو الرواية البدينة كما وصفها الناقد سعيد يقطين في مقال له منذ عامين، وهي الرواية البدينة المحببة لدى لجان تحكيم الجوائز، ولدى الجمهور الذي يرغب في الاسترسال بالقراءة، الذي يرغب في أن يحمل كتابا ضخما، لا ينتهي، الرواية "الكعب" باتت المفضلة، على الرواية القصيرة، المكثفة، الرشيقة.


الغش التجاري باسم الأدب


Ian-McEwan


في مقال ترجمه المترجم "أحمد شافعي" كتب الروائي البريطاني " إيان مكيوان"، عن العصارة الإبداعية اللازمة، وحجم الخط الكبير، والمسافات بين السطور، ومحاولات بعض الكتاب الذين يكتبون الرواية في ترويج بضاعة غير مطابقة للمواصفات، أو ما يسميه "مكيوان" الغش التجاري في الأدب، إذ يرى الكاتب البريطاني أن الرواية القصيرة هي القالب المثالي للقص النثري، وهي الابنة الجميلة للعملاق الهائم المنتفخ.


ينتصر مكيوان لرواية الروائي الألماني الكبير "توماس مان" الموت في فينسيا" و"المسخ" أو "التحول" لكافكا، و"الغريب" لألبير كامو". يدعو "مكيوان" الكُتاب إلى الاقتصاد والتركيز على الغاية من إبداعهم، ومما يكتبونه.


"أورا" 66 صفحة قطع صغير..متعة بحجم 500 صفحة


رواية كارلوس فوينتس أورا


وليست هذه الأعمال التي أشار إليها "مكيوان" هي الوحيدة التي شكلت علامات في فن الرواية – القصيرة- فهناك الرواية المهمة الصغيرة جدا للروائي المكسيكي كارلوس فوينتس "أورا"، التي تدور أحداثها في بيت فخم، معتم، ومتآكل، تعيش فيه سيدة عجوز تحتاج مديرة بيت هي "أورا"، التي تكتشف بمجرد دخولها البيت، أن السيدة العجوز تسعى لنشر مذكرات زوجها الجنرال الرال، فتنشر إعلانا بالجريدة تطلب فيه مؤرخا للقيام بالمهمة، ويتقدم للوظيفة عاطل، وعبر الصفحات القليلة للعمل، يصحبنا "فوينتس" في رحلة بالغة العذوبة والسحر والغموض، بين جيلين، جيل العجوز التي تحاول تخليد زوجها الراحل بنشر مذكراته، وجيل أورا والمؤرخ العاطل، وتنتهي الرواية وقد تبدلت المقاعد، وحلت أوروا محل العجوز، وحل المؤرخ الشاب محل الجنرال الذي يكتب مذكراته، في نهاية غامضة ومثيرة.


"سالباتييرا" 190


صفحة..الصفحة هي المكان الوحيد الفارغ الذي خلقه الله لي


سالباتييرا


وإلى جانب "أورا" من أدب أمريكا اللاتينية، هناك أيضا روايات قصيرة مهمة بعضها لأدباء شبان، مثل رواية "سالباتييرا" للروائي الأرجنتيني، عدد صفحاتها لم يتخط 190 صفحة، ولم يزل عالقا منها عبارة تقول: الصفحة هي المكان الوحيد في الكون الذي تركه الرب فارغا من أجلي"، في هذه الرواية، تدور الحبكة عن رسام أرجنيتني يتوفى تاركا لولديه لفائف بالغة الطول من القماش المليء برسوماته، دون فيها مجريات حياته، عبر طريقة الرسم على القماش، يكتشف أحد نجليه بعد رحيله اختفاء جزء كبير من هذه اللفائف، تقدر بعام كامل من حياة أبيه، عام كامل يختفي من جدارية الأب، يكتشف خلالها الابن، سر أبيه الأكبر، وعشيقته التي أنجب منها ابنا، يتعرف على شقيقه الذي ظل في الظل حتى قاد إليهما جزء من جدارية الأب.


رجال في الشمس ..90 صفحة تعادل مجلدا


رجال في الشمس


وإلى الأدب العربي هناك النوفيلا المهمة التي كتبها "غسان كنفاني" رجال في الشمس، وصدرت في بيروت عام 1963، ويبلغ عدد صفحاتها في بعض الطبعات 91 صفحة.


لا يمكن إنكار أثر "رجال في الشمس" في تاريخ الرواية العربية، وهي من الأعمال التي لا نتوقف عن الرجوع إليها، وإلى أثرها في نفوسنا، بعبارتها الخالدة "لماذا لم يطرقوا الخزان"، وهي العبارة التي تحولت إلى أمثولة للكل العاجزين عن المقاومة ويستسلمون لأقدارهم، إذ تحكي الرواية قصة الفلسطينيين الثلاث الذين يحاولون الخروج، والهروب من مصائرهم، بالاستعانة بمهرب يعدهم بالجنة المنتظرة في إحدى البلاد، حيث تحقيق الآمال والثروة، لكن طريق الهروب عبر خزان من الحديد الذي يتحول إلى جهنم في حر الصحراء، ولهيب الشمس، ولعل رواية "رجال في الشمس" نبوءة مبكرة قبل عقود بما سيتعرض له العديد من أبناء البلاد العربية للشتات، والموت سواء خلال محاولتهم عبور الصحراء، أو عبور البحر.


 


اللص والكلاب- 180 صفحة..عمل يقول الكثير في صفحات قليلة


اللص والكلاب نجيب محفوظ


ومن الروايات المهمة القصيرة في الأدب العربي، والمصري بوجه خاص، رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، التي يصل عدد صفحاتها إلى حوالي 180 صفحة طبعة دار الشروق، وهي الرواية التي كتبها محفوظ متتبعا سيرة المجرم "سعيد مهران"، إنها القصة التي شغلت أرجاء القاهرة مطلع الستينات، يشير محمد شعير في مقاله الصحفي الذي عنونه " أولاد حارتنا صراع الكاتب مع رموزه" إلى أن اللص المجهول الذي سطا على فيلا أمير الشعراء في اليوم الذي بدأ فيه نجيب محفوظ نشر "أولاد حارتنا" بصحيفة الأهرام، سطا بعد أيام على فيلا أم كلثوم، وتمكن البوليس من القبض عليه، وحكى في التحقيقات أنه ارتكب 58 جريمة، لكنه تمكن من الهرب، صار محمود أمين سليمان بطل الصحف، التي بدأت تفتش في حياته، وعلاقاته، وتاريخ زواجه الفاشل، تحول اللص إلى بطل واسترعت القصة انتباه نجيب محفوظ، خاصة بعدما طلب اللص من الأهرام أن تنشر سيرته الذاتية في حلقات.


رأى محفوظ في سعيد مهران أو " محمود سليمان" بطلا شعبيا، تطارده الأجهزة الأمنية، بينما هو يبحث عن العدالة، والقصاص ممن ظلموه، خاصة زوجته التي خانته، كانت "اللص والكلاب" إحدى أيقونات محفوظ الروائية القصيرة، وفي ظني، أن العديد من قصصه القصيرة، هي روايات قصيرة.


الرجل الثاني..أو الشيطان يعظ - 60 صفحة..قصة قصيرة لكنها نوفيلا 


مجموعة الشيطان يعظ


 ومن ذلك قصته "الرجل الثاني" المنشورة في مجموعته "الشيطان يعظ"، والتي تم تحويلها إلى فيلم يحمل عنوان "الشيطان يعظ" بطولة نور الشريف وفريد شوقي وعادل أدهم، إلا أن عنوان القصة في الكتاب هو "الرجل الثاني" الذي يخرج عن طوع الفتوة، بعدما كلفه بأمر لا أخلاقي، وهو مراودة خطيبته عن نفسها، ومحاولة الإيقاع بها، لاختبار أخلاقها.


يقول محفوظ في الفصل الثالث من "الرجل الثاني":


استيقظ شطا الحجري عند الضحاز اجتاحته ضوضاء الحياةز مازال الصيف يزفر ناراز استيقظت معه ذكريات الليل. لم يلق إليه المعلم بأي إرشادات. هل ينتظر حتى تجيئه إشارة؟ كلا، عليه أن يتحرك. ليتحرك حتى لا تنفرد به الأفكار. قرر أن يذهب إلى دار الديناري.


هل تفتح هذه الأعمال شهية الكُتاب للاتجاه إلى كتابة الرواية المكثفة القصيرة، هل ثمة فرصة لإحياء النوفيلا، أو فضيلة التكثيف، أم أن الأمر يحتاج إلى أن نطلق جائزة للنوفيلا، ونحدد عدد صفحاتها، كي يكثف الكُتاب من صفحات أعمالهم، ويتخلصون من الزوائد والحواشي ومسببات التخمة الروائية؟.


اقرأ أيضا


دعاء الكروان في تونا الجبل..فرص عديدة تمنحها الاكتشافات الأثرية الجديدة


استراتيجية النشر الحائرة فى وزارة الثقافة..فضيلة التنسيق الغائبة بين مسؤولي الوزارة