فتحي غانم.. قليل من «الصحافة» كثير من «الأدب»
في الوقت الذي اختار فيه الكاتب محمد حسنين هيكل أن يكون سفيرًا للسلطة في الصحافة المصرية، قرر فتحي غانم أن يكون رسولًا للأدب في رحاب صاحبة الجلالة، صحافي سرده النثري يرقى لمستوى الروايات الأدبية، التي اعتبرها – ردًا على هيكل- الأكثر بقاءً وتأثيرًا، فكان رد الأستاذ صديق الحكام، باسمًا: «خلاص أنت بتاع الصفحة الأخيرة، وأنا بتاع الصفحة الأولى».
* الرجل الذي وجد ظله
بعد شهور من وفاة الأب، يجلس فتحي غانم، وهو في الحادية عشرة من عمره، على مكتب والده الراحل، لا يدرك سر رغبته في استخراج القلم والأوراق، ونقل دَمْدَمة غير واضحة إلى عبارات، وجمل، وفقرات، استولت عليه التجربة، وبدأ بالشعر المنثور، وكان جمهوره صديق مقرب يشجعه على الاستمرار في التدوين.
«آخر ذكرى لي عنه صورته وهو جالس يكتب»، هكذا يتذكر فتحي غانم الأب، الظل الذي استمر راعيًا للابن بعد الرحيل الجسدي، لكن تأثيره خَلَدَ في اختيارات امتداده الجيني، فعل الكتابة لم يكن اختيارًا عبثيًا، لأن النشأة الأولى والمناخ الذي وضعه والده، كان لبنة تدشين البناء الثقافي.
على حد تعبير فتحي غانم، فرض عليه الانضباط المبكر، أن يكون «الطفل الطيب المثالي»، تشرب اللغة العربية الفصحى من عالم أزهري بدءًا من الخامسة، ومنع من اللعب مع الأطفال، ما جعله تحت تأثير الانعزال عن اللهو والسياسة، لكنها كانت دافعًا للتأمل والرصد، لذا لم يكن مستغربًا أن يسير طواعية على درب الأب، ويستحضره في جلسته على المكتب وسط أوراقه.
«استلهم فتحي غانم طفولته في رسم ملامح نشأة يوسف السويفي، بطل روايته الرجل الذي فقد ظله»
حاول فتحي غانم، أن يستثمر علاقة والده برجال الأدب، لكنه وجد من جانبهم فتورًا جعله يتوقف عن الانتظام في الكتابة لسنوات، لكن مصرع أخيه إثر اصطدامه - مصادفًة- بسلاح تابع للجيش الإنجليزي، جعله يكتب قصة وداع، نشرها الصحافي أحمد بهاء الدين، في مجلة شهرية ثقافية اسمها «الفصول»، وقتها كان يعمل غانم مفتشًا للتحقيقات في وزارة المعارف، لكن بعد تلك القصة، داوم على نشر مقالات نقدية وتاريخية.
رويدًا رويدًا بدأ اسم فتحي غانم معروفًا للأخوة مصطفى وعلي أمين، ومحمد حسنين هيكل، وإحسان عبد القدوس، وغيرهم من الجيل الصحفي الذي بدأ يغير في شكل ومضمون الصحافة بدءًا من أربعينيات القرن العشرين، وكان غانم أحد عناصر هذا التغيير.
* الجبل والعرش
كان أحمد بهاء الدين، بمثابة كشاف الموهوبين في تلك المرحلة، وكان فتحي غانم، والشاعر صلاح جاهين، أفضل ما قدم للصحافة والأدب، لذا انتقلت كتابات فتحي غانم النقدية من مجلة «الفصول» إلى «روز اليوسف»؛ التي يعد أحمد بهاء الدين أحد روادها، وفي باب «أدب» انتقد وسخر غانم من الإنتاج الأدبي لكبار الكتاب، مثل عبد الرحمن الخميسي، وأحمد الصاوي، حتى أنه عندما انتقل لآخر ساعة، كتب أن عميد الأدب العربي طه حسين، عقبة ضخمة في طريق القصة المصرية، وهو ما عرضه للهجوم من تلاميذ القامات الأدبية التي تطرق إليها في كتاباته.
اللافت أن إحسان عبد القدوس رئيس تحرير روز اليوسف، لم يسلم من نقد غانم في صفحة الأدب، وكانت شجاعة من غانم أن يسخر من فكرة ولغة رواية «الخيط الرفيع»، في مطبوعة تحمل توقيع مؤلف الرواية نفسه، وكانت النتيجة غلق باب «أدب»، وامتناع غانم عن الكتابة، إلى أن تدخلت السيدة روز اليوسف، وأمرت بنشر المقال الممنوع.
بعد عدة سنوات، حاول غانم أن يعرض إنتاجه الأدبي عبر صفحات المجلات والصحف، لكن علي أمين كان رافضًا لهذا النوع من النشر المسلسل للإنتاج الأدبي، عكس إحسان عبد القدوس الذي فتح الباب لكتابته ومؤلفات يوسف السباعي، خاصة أن غانم وإحسان جمعهما أسلوب واحد، وهو الهروب من السياسة إلى الأدب، وكان إحسان يخبر محرريه في صالة التحرير، أن الطريقة المثلى للفرار من الرقابة، هو إعادة كتابة الحدث في صورة أدبية، لذا كان مرحبًا بفتحي غانم، في روز اليوسف للمرة الثانية.
واقعة انتقاد غانم لـ«الخيط الرفيع» جعلته يتردد في تقديم روايته «الجبل»، التي استقاها من خلال عمله مفتشًا للتحقيقات، عندما ذهب لقرية «القرنة» في الصعيد، وخشي أن يجد رفضًا من إحسان، فلجأ إلى حيلة نشر السلسة بأسلوب التحقيقات الصحفية، وبعد نشر ثلاثة أعداد، استدعاه إحسان ونبهه إلى جذب ما يكتبه للقراء، وبهذا نال موافقة رئيس التحرير على مواصلة النشر.
بعد صدور رواية «الجبل» عام 1959، لم يتوقف فتحي غانم عن كتابة الرواية، وظهرت «تلك الأيام» عام 1963، وبعد 7 سنوات يصدر رباعية «الرجل الذي فقد ظله»، والتي جعلت المقربين قبل المتلقين، يربطون بين أبطال الرواية، وشخصيات من الواقع، ثم جاءت رواية «زينب والعرش» عام 1975، ليجد الكثيرين يربطون بين شخصية «عبد الهادي النجار»، والكاتب الصحفي مصطفى أمين؛ ما دفع غانم لكتابة رجاء حار في مقدمة الرواية، قائلًا: «يرجو مؤلف هذه الرواية، رجاءً حارًا ألا يتورط القارئ العزيز في محاولة البحث عن صلة بين أو أوجه شبه بين شخصيات هذه الرواية، وشخصيات في الواقع سواء كانت معروفة، أو غير معروفة».
رغم النفي، تستمر المقارنة مع كل إعادة عرض فيلم «الرجل الذي فقد ظله»، ومسلسل «وزينب والعرش»، خاصة أن تأثير العمل الصحفي على فتحي غانم، جعله يرسم ملامح العالم الخفي للصحافة، وإبراز شخصية الصحفي الانتهازي في كتابته الإبداعية.
اختار فتحي غانم أن تكون معاركه أدبية بعيدًا عن السياسة، لذا لم يتم اعتقاله مثلما حدث مع أغلبية كتاب عصره في العهد الناصري، لكن المدهش أن أسلوبه الأدبي كاد يعرضه للقاء زوار الفجر، وذلك عندما طلب منه علي أمين، أن يكتب معايشة للشاب المنتمي لجماعة الإخوان محمود عبد اللطيف، والذي اتهم بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر، في حادثة المنشية، عام 1954، وكان محذورًا نشر صورة عائلته في الصحف، فاتجه غانم إلى التعبير بالصورة القلمية، وأجاد في الوصف لدرجة جعلت المسئولين يدركون أن هذا الشاب إما ذو ميول إخوانية، أو على علاقة بالمتهم، لكنهم وجدوا نفيًا من علي أمين، الذي حكي القصة لغانم والابتسامة لا تفارق وجهه، بينما صاحب «الجبل» كاد يخر صعقا من ارتباط اسمه بشأن سياسي عن غير قصد.
* خمسون عامًا من العزلة
خلال خمسين عامًا انتصر الأديب فتحي غانم على إنتاجه الصحفي، من منطلق رؤيته أن الرواية هي أقرب الوثائق للحقيقة، وقدم نصوص وعوالم أدبية متفردة جعلته في مصاف نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، ويوسف إدريس، لكن العزلة الاختيارية التي نشأ عليها جعلته يبتعد عن الأضواء، وندر ظهوره على شاشة التلفزيون، كان في حالة هدوء تام، متعته الكتابة والقراءة، ولعب الشطرنج، والرد على رسائل القراء.
لم يتوقف عن طقوسه اليومية، إلا بعد علمه انتقال السرطان إلى كبده، وخسر الكثير من وزنه، ومع ذلك كان يمتلك قوة نفسيه، جعلته يتابع الفحوصات الطبية في هدوء، وزوجته الدكتورة زبيدة عطا، ترافقه في المستشفى الاستثماري، وفي منتصف ليل 24 فبراير 1999، كان يحتضر ولم يكن هناك أطباء، واستنجدت زوجته – وفق روايتها لمجلة الجيل الثقافية- بممرضة تجهل قيمة الشخص الراقد على سرير المرض، وقالت ببرود وهي تلتهم قطعة شيكولاتة وتشاهد التلفاز: «وطب وأنا في إيدي أعمل إيه يعني؟».
وفي هدوء يرحل فتحي غانم، تاركًا روايته الأخيرة «ست الحسن والجمال»، بمثابة تأريخ لتغيرات المجتمع المصري، متمثلة في بطلة الرواية «دنيا» التي يحاول الجميع السيطرة عليها بالمال والسلطة، ومحور الصراع أحد رجال الحكم، وعميل أمريكاني متنكر في صورة مخرج هوليودي، وصاحب ملايين يسخر أمواله من أجل السيطرة عليها.
انعكاس صورة المجتمع في أدب غانم، لم تكن سوى إشارة إلى أننا نحيا في مرحلة «قليل من الحب.. كثير من العنف».
اقرأ أيضًا
إحسان عبد القدوس إلى جمال عبد الناصر: لم ألحد لكن المجتمع منحل
روز اليوسف.. المجد يبدأ من غرفة الأخبار