التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 03:36 م , بتوقيت القاهرة

"أوقفوها عن الغناء"..وثائق المعركة القضائية بين أم كلثوم وزكريا أحمد

" هو صحيح..صحيح..الهوى غلاب..؟ معرفش أنا"..


فى عام 1951 اندلع الخلاف بين أم كلثوم، والشيخ زكريا أحمد، وانتهى فى أروقة القضاء، أثر طلب الشيخ وقف إذاعة الأغنيات التى لحنها للست أو تعويضه التعويض المناسب.


لم يكن هذا الخلاف مثل أي خلاف يشب بين موسيقيين وملحنين، أو بين هؤلاء، وبين مطرب كبير، كان هذا الخلاف بين قامتين موسيقيتين باهرتين، كان هذا الخلاف بين أم كلثوم، بعظمتها، وإرثها الموسيقى والفني الهائل، وبين الشيخ زكريا أحمد، الذي كان أحد أهم وأكبر الملحنين في الثلاثينات والأربعينات، وهو سليل عنقود فني من الملحنين الذين جمعوا بين لقب "الشيخ" ولقب "الملحن"، بعد الشيخ "سيد درويش" والشيخ "سلامة حجازي"، كما كان الخلاف بين قامتين كبيرتين، تعاونا من قبل في العديد من الأعمال الفنية، منها "أنا فى انتظارك" و"الورد جميل" و"غنيلي شوي شوي" و"أهل الهوى".


أم كلثوم أثناء خروجها من المحكمة


انفرد بنشر تفاصيل وأوراق القضية، الكاتب الصحفي محمد شعير، في كتابه الصادر حديثا بعنوان "مذكرات الآنسة أم كلثوم" ووثائق أخرى، عن سلسلة كتاب اليوم التي تصدرها مؤسسة أخبار اليوم، حيث أورد شعير، 4 وثائق في الكتاب، أولها تتعلق بمذكرات منشورة لسيدة الغناء العربي، في الفترة من نوفمبر 1937، حتى يناير 1938 تحت عنوان " مذكرات الآنسة أم كلثوم"


غلاف كتاب أم كلثوم


في الوثيقة الثانية من الكتاب، ينشر محمد شعير مقالات صحفية كتبتها سيدة الغناء العربي، مفاجئا قارئ الكتاب بحقيقة غير شائعة عنها، ألا وهي "أم كلثوم" الكاتبة الصحفية، التي تكتب عن "جمال عبد الناصر" وعن "أحمد حسنين باشا" وعن "أحمد رامي"، في هذا الجزء من الكتاب يكشف مؤلفه جوانب أخرى من حياة سيدة الغناء العربي، وتشجيعها للصحافة الوطنية، ومساندتها لها، بعدما شجعت صدور مجلة "آخر ساعة" للصحفي المعروف محمد التابعي، بل أنها ساهمت سرا في مؤسسة أخبار اليوم بتبرعها لمصطفى أمين بمبلغ 18 ألف جنيه، حسبما يكشف شعير في الكتاب.


الوثيقة الثالثة التي ضمها الكتاب، عن الحوار الصحفي الذي أجرته أم كلثوم مع الكاتب الصحفي الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، الذي كتب ذات  مرة " عندما كانت تغني أم كلثوم، كنت أشعر أن روح مصر كلها تتقمص كيان هذه الفنانة".


القضية استمرت 9 سنوات، حتى استقرت لدى القاضي عبد الغفار حسني


إزاي يا تري


اهو ده اللى جرى


في الجزء الرابع من الكتاب، يضمن مؤلفه وثائق حصل عليها من الباحث "عصام فوزي" تكشف قصة الدعوى القضائية التي أقامها الشيخ زكريا أحمد ضد أم كلثوم، وعلى مدى تسع سنوات تبادلا فيها الاتهامات، والدعاوى والمذكرات والدفوع القانونية، وتقارير الخبراء، ومن قاض إلى آخر، تنتقل القضية، ويحار القضاة بماذا يحكمون؟.


يذكر شعير في مقدمة كتابه أن سيد قطب، كان قد طالب في بدايات ثورة يوليو، بمحاكمة أم كلثوم لأنها غنت للملك السابق، وقرر الضابط المشرف على الإذاعة منفردا وقف إذاعة أغنياتها، وطردها من منصب نقيب الموسيقيين، وهو ما جعل عبد الناصر يغضب، ويقول فى أحد اجتماعات مجلس قيادة الثورة للضابط المشرف على الإذاعة: لماذا لا تهدموا الهرم الأكبر لأنه من العهد البائد؟


على الجانب الآخر يلفت شعير إلى ما كتبه نجيب محفوظ عن أم كلثوم، والشيخ زكريا أحمد، حيث وصف محفوظ أم كلثوم بأنها "كمغنية خلق فريد، الزمان بمثله ضنين، حنجرة كاملة المراتب، وصوت عذب مرن مقتدر، يمتاز بمزايا الصوت النفيس مجتمعة من قوة وحنان".


الشيخ زكريا أحمد


 فى أوراق القضية والمذكرات المتبادلة..قالت أم كلثوم إن اللحن أحد العناصر المكونة لفن أم كلثوم..وهو ملكية خالصة لها تحمل طابعها كمطربة الشرق. ورد زكريا أحمد إن أم كلثوم مجرد مؤدية..مهمتها توصيل رسالة الشاعر والملحن. وأضاف: لوحظ لدى رجال السمع عند جماعات المتتبعين لصوت المطربة المعلن إليها أنها كلما أرادت أن تخلو بخيالها إلى مفارقة ما وضعه الملحن من أصول موسيقية معينة فى الأغنية وأنها تعمل من جانبها على المحاولة بالخروج عن أصول الأداء التلحينى المرسومة، كلما فعلت ذلك فشلت فيه فشلا ذريعا يكشف ما عرفت به من زمن من أنها لا تقدر على تلحين أية أغنية مهما صغرت فى صياغتها.


"جاني الهوى من غير مواعيد..وكل مدى حلاوته تزيد"


كانت علاقة الشيخ زكريا أحمد قد بدأت بأم كلثوم عام 1919، حينما كانت لا تزال طفلة تشدو حفلاتها بقرية طماي الزهايرة، وعندما استمع إليها أول مرة وكان بصحبة الشيخ أبو العلا محمد، وصف صوتها بأنه "لا مثيل له"، وكان واحدا من المحرضين لها على أن تترك القرية إلى القاهرة حيث المجد.


سيد قطب كان قد طالب في بدايات ثورة يوليو، بمحاكمة أم كلثوم


بدأ التعاون بين زكريا أحمد وأم كلثوم عام 1925، عندما لحن لها طقطوقة " اللي حبك يا هناه"، وحسبما يشير شعير في الكتاب، لم يكن طريق أم كلثوم مفروشا بالورود، بل تعرضت لأعنف الحملات الصحفية لصالح غريمتها آنذاك منيرة المهدية، التي أقلقها أن تتعاون الآنسة مع الشيخ زكريا، إذ نشرت مجلة المسرح عام 1926 خمس مقالات تهاجم الشيخ زكريا وأم كلثوم، لكن الشيخ استمر داعما للمطربة الصاعدة ، وكانت ألحانه لها بمثابة تطوير للأغنية العربية حسب وصف الصحف لها.


الآنسة أم كلثوم


نظره وكنت أحسبها سلام وتمر قوام


أتاري فيها وعود وعهود وصدود وآلام


كان زكريا يرى أن أم كلثوم أسطى من خيرة أسطوات الفن وصائغة من أمهر صائغات الغناء، فهي لا تختار إلا الجيد، ولا تقدم إلا الجميل، وفي مذكراته وصفها من خيرة من عرف ذكاء ومقدرة وفهما للناس، إلا أنها تغيرت معه، نسيت زكريا أحمد الذي رافقها بإيمان وإخلاص، ولم تفهم أخلاقه وكبريائه.


حينما أسس محمد عبد الوهاب شركة كايروفون للأسطوانات، وفاوض أم كلثوم على تسجيل جميع أغنياتها التي لم تتمكن من تسجيلها بسبب سنوات الحرب العالمية، اتفق معها على أن تتقاضى ألف جنيه عن كل لحن، بينما يتقاضى رياض السنباطي ومحمد القصبجي 100 جنيه، وزكريا أحمد 200 جنيه، واعتبر زكريا هذا الاتفاق يمس كرامته، ووسطت أم كلثوم أصدقاء مشتركين بينهم بيرم التونسي في محاولة لإقناع زكريا، لكنه كان مصرا، ولجأ إلى القضاء، بعدما شهدت ساحته قضية أخرى بين الشاعر محمد الأسمر من جهة، والإذاعة المصرية من جهة أخرى، طالب فيها الأول بتعويض لأنه لم يتقاض ما تقاضته أم كلثوم من الإذاعة، كانت دعوى الشاعر الغنائي محمد الأسمر تطالب بتعويض قدره 500 جنيه عن حق الأداء العلني، وظلت القضية متداولة في المحكمة حتى تم الحكم فيها مارس 1951 بمبلغ مائتي جنيه فقط للشاعر.


في أكتوبر 1951 تقدم زكريا بدعوى قضائي ضد أم كلثوم إبراهيم، وضد مدير الإذاعة المصرية، وضد وزارة الشؤون الاجتماعية، وحسب المذكرة التي صاغها مكتب الدكتور عبد السلام ذهني، المحامي بالنقض، لاحظ الطالب أن أم كلثوم كانت ولا تزال تقوم بأداء ألحان زكريا مئات المرات في حفلات عامة، وفي أشرطة وغير ذلك، دون أن تحصل على تصريح، وبذلك اعتدت أم كلثوم على حق ملكية التلحين، وطالب محامي زكريا، أم كلثوم أن تتوقف عن الغناء علنا لألحان موكله، كما طالب الإذاعة بعدم التصريح لأم كلثوم بذلك الغناء الضار بحقوق الطالب.


في الكتاب يستعرض شعير الردود القانونية بين الجانبين، والدفوع التي قدمتها أم كلثوم، إذ قالت سيدة الغناء العربي في إحداها أنها فنانة الشرق الأولى التي تحمل رسالة فنية خالدة، وأن عملها الفني يعتبر وحدة تحمل طابعها فنيا منسجما، وأن الطالب أخذ أجره على تلحين كل أغنية تغنيها له.


واندم واتوب


وعلى المكتوب


ما يفدش ندم


يشير شعير مؤلف الكتاب إلى أن القضية استمرت 9 سنوات، حتى استقرت لدى القاضي عبد الغفار حسني، رئيس محكمة القاهرة، الذي طلب حضور الخصمين أمامه في الجلسة التي عقدة يوم 25 يناير 1960، وصلت أم كلثوم المحكمة، وبصعوبة دخلت إلى غرفة القضاة بسبب زحام الجماهير الذين انتظروها، وعندما وصلت سيدة الغناء العربي، وجدت الشيخ زكريا أحمد هناك، بدأ القاضي بالحديث عن الخسارة التي مني بها الفن نتيجة الخصومة بين الطرفين، واستمر حسب وصف جريدة الأهرام التي استعان بها مؤلف الكتاب كوثيقة عن القضية- في التحدث لمدة 3 ساعات، فلم يستطع الشيخ زكريا أن يتمالك نفسه، وقال للقاضي: يا حضرة القاضي..الفلوس لا بتدوم..ولا الشتيمة بتلزق، وأنا عمري أن أرى أم كلثوم سيدة مطربات الشرق، وكنت أسعى دائما إلى تلحين الأغنيات التي تخصها.


زكريا أحمد


عندما قالت أم كلثوم للقاضي أنها تتمنى أن تنتهي هذه الخصومة كسحابة صيف، قضى القاضي بأن يلحن زكريا ثلاثة ألحان لأم كلثوم، مقابل أن تدفع له 700 جنيه عن كل لحن، ووافق الطرفان، وتبادلا السلام، كان الحكم خبرا رئيسيا للصحف، وبعدها بدأ الشيخ زكريا فى تلحين أغنية "هو صحيح الهوى غلاب" لكن الحياة لم تمهله لاستكمال الحكم بتلحين الأغنيتين الباقيتين.


اقرأ أيضا


"الفتنة الكبرى" لطه حسين..لماذا تصدر الأكثر مبيعا فى معرض الكتاب..؟