التوقيت الثلاثاء، 24 ديسمبر 2024
التوقيت 06:21 م , بتوقيت القاهرة

كيف حطم يوسف شاهين نموذج الأم في السينما المصرية؟

الأم، شخصية من الشخصيات صاحبة القداسة قليل من صناع السينما من حاول الخروج عن هذه القدسية التي فرضتها عادات وتقاليد مجتمعية جعلت الأم كيانا مقدسا لا يجوز أن يخطئ أو يظهر بصورة أخرى سوى تلك الصورة ذات القدسية العظيمة، هناك بعض الأفلام رفعتها إلى مرتبة القديسين، ولكن يوسف شاهين أحد صناع السينما الذين تناولوا صورة الأم من منظور مختلف.


ما قبل شاهين كان نادرا أن ترى سوى نموذجين للأم فقط النموذج المتعارف عليه؛ الأم الطيبة الهادئة التي تحب أبناءها وتراعيهم وتحب زوجها وتضحي من أجل الجميع وتجلس لتدعي لهم ليل نهار، أو الأم المتسلطة ذات الشخصية القوية والتي تعتقد أن تسلطها وشخصيتها القوية هما السبيل للحفاظ على بيتها، ولكن الأحداث تخبرها أن هذا التسلط هو ما سيهدم كل ما بنته لتعود لرشدها وتسلك مسلك الأم المتعارف عليه.


الأم يمكن أن تكون نفعية ووصولية



يوسف شاهين في البداية قرر أن التعامل مع نموذج الأم يكون وفقا لتلك المعايير التي وضعتها السينما، فجاء فيلمه "بابا أمين" يحمل نموذجا سينمائيا مصريا خالصا للأم، الأم الحنون العطوف الطيبة التي يوقعها الأب في العديد من المشاكل بسبب تصرفاته غير المسئولة والتي يحاول طوال الوقت أن يصلحها بعدما يظن أنه مات، نموذج ماري منيب في الفيلم نموذج كما قال الكتاب عن الأم في السينما، وربما كان لهذا عذره فالحبكة والفيلم نفسه هنا لا يحتمل نموذجا مغايرا للفيلم فجاء توظيف هذا النموذج سليما من الناحية الدرامية، وربما كان أحد أكثر المرات توظيفا للنموذج المثالي للأم في السينما ولكن الأمر تغير بعد ما يقرب من 9 سنوات.



عام 1960 يقدم شاهين فيلم "بين إبديك" حيث نموذج آخر للأم وهو برلنتي هانم، أعظمهم، والتي تبدو للناظر من الوهلة الأولى أنها مجرد سيدة متسلطة تحافظ على العادات والتقاليد التي عفى عليها الزمن، ولكن في الحقيقة كانت هذه الشخصية الضربة الأولى التي يوجهها شاهين للأم، الأم هنا ليست متسلطة فحسب بل هي أيضا مستغلة ووصولية لا تمانع أن تبيع ابنتها الجميلة في سبيل تحقيق الرخاء المادي للأسرة، فإذا رأت أن الاستقرار المادي للأسرة سيأتي حين تتزوج أمال رجب النجار فإنها تحرص على أن تُعامل أمال رجب جيدا وتتغاضى عن التقاليد والعادات التي كانت تتمسك بها، وحينما تظهر فرصة أفضل في الأفق فإنها لا تتورع أن تجعل أمال تترك رجب لتذهب لهذا العريس الجديد، الأم هنا شخص نفعي بالدرجة الأولى حتى وإن توارت تلك النفعية خلف ستار يمكن تسميته بالمصلحة العامة.


الحب والرغبة المسكوت عنه في شخصية الأم



تمر سنوات وأفلام عليها توقيع يوسف شاهين دون أن يحتاج فيها لشخصية الأم، صحيح أن شخصية "بهية قمر" في فيلمه "الاختيار" كانت تحمل بعض ملامح الأمومة ولكنها لم تكن الأم بمعنها الحرفي أو الموضوعي في الفيلم، ليقدم شاهين فيلم العصفور، الذي أنتج في 1970 وعرض عام 1974، وقتها تكون بطلة الفيلم هي بهية "الأم" صاحبة النزل الذي يتجمع فيه أبطال الفيلم وبهية العصفور نموذج أمومي مختلف للغاية.


قبل نموذج "بهية" في العصور كان من المحرم أن يتحدث أحد عن احتياج الأم العاطفي والجنسي، عن إمكانية أن تقع في الحب، بل إن جانب الحب والجنس في حياة الأم في السينما المصرية حتى في أكثر النماذج اختلافا كان غير مطروق، مع بهية العصفور نرى الأم تحب بل تدخل في دوامة الحب من طرف واحد، وحب دون أمل، حب شاعري ورومانسي وأيضا شهوة ورغبة جنسية حقيقية، رغبة عدم تلبيتها يؤثر على حالة الام النفسية، يوسف شاهين يخلق للأم بعدا نفسيا حقيقيا يجعل تلك الشخصية تنزل من العلياء الذي وضعته فيها السينما المصرية لتصبح معنا على الأرض.


ربما كان هذا أكثر صدامية من مشهد الأم التي تخرج حافية لتركض في الشوارع لتعلن رفضها لفكرة الانكسار، لتعلن حرب ليست فقط على العدو الذي احتل الأرض أو الفاسدون في الداخل ولكن تصرخ للمرة الأولي لتعبر عن نفسها لتعلن حربها على نفسها وكبتها ومشاعرها المسجونة تحت رداء الأم وتجاعيد زمن فات معظمه في التمني والانتظار.


من جعله الابن الضال؟



عام 1976 قدم شاهين فيلم "عودة الابن الضال"، وفي هذا الفيلم تحديدا يقدم شاهين واحدا من أكثر نماذج الأم خروجا عن المألوف، فهو نموذج حمل مزيج من السيطرة والسلطة والنفعية والأنانية، وحنان الأم المعروف ورغبتها في إرضاء أبنائها وجعلهم أفضل، وفي نفس الوقت السيطرة والقيادة، الأمر الذي يجعل الأم تتستر على جريمة اغتصاب يرتكبها ابنها الأكبر في حق ابنة شقيقتها، وتحاول طول الوقت أن تجمع كل الأمور بيدها بل وتهمش الأب تماما لدرجة أنه يصبح شخصا عديم الشخصية طيلة الفيلم يحاول أن يتحايل للهرب من سيطرة الأم وسيطرة ابنه الأكبر "طلبة".


الأم أيضا لم تخل من تلميحات جنسية أطلقها شاهين من حين لآخر داخل الفيلم ليخلق بعد حياتي آخر يجعل تلك الشخصية أكثر حقيقية وقربا من المشاهد، بل ويجعلك طيلة الوقت في حيرة من أمرك بين التفهم الشديد لمواقفها ورفضك تلك المواقف، الشخصية هنا تتحرك في حيز في غاية الضيق والبراح في الوقت نفسه؛ فلا مجال لأن تكرهها كرها مطلقا أو أن تتعاطف معها تعاطفا كاملا، فقط شاهين يريدك أن تفهم أن هذا يحدث وحدث وسيحدث، ليأتي بنهاية أكثر صدامية من كل أفلامه، ربما أكثر نهاياته صدامية ودموية على الإطلاق، حينما يكتشف الجميع الحقيقة لتلقي الأم مصرعا بطلقات ابنها علي، كأنه عقاب على تسترها طيلة الوقت على جرائم ارتكبها طلبة شقيقه الأكبر وجرائم أخرى ارتكبها هو وأيضا جرائم ارتكبتها الأم، تنتهي العائلة تماما ولا يتبقى منها سوى الأب وفاطمة، يوسف شاهين يقتل الأم بهذه الدموية فأي صدمة أخرى يمكن أن يتلقها النموذج اليوتوبي للأم بعد ذلك.


الأم تخطئ وتحاسب وتُتهم



مع بداية شاهين بفكرة الأفلام الذاتية كان هناك نضج أكثر وتناول مختلف في شخصية الأم؛ فمثلا الأم في "اسكندرية ليه" عام 1979 نجدها نموذجا ليس "يوتوبي" خالصا، ولكنها نموذج أقرب للنموذج المثالي، الأم التي تحاول أن تساعد أبناءها وتعيش في ظروف خانقة وضيقة مع أحلام ابنها التي تكاد أن تعبر السماء وتحاول جاهدة في تحقيقها ومساعدته على تحقيقها.



على العكس تماما في نموذج الأم في فيلم "حدوته مصرية" 1982، والتي تقف في عديد من المشاهد في موقف المتهم، ربما كان أبرز اتهام وجهه يحيى لأمه هو اتهامها بخيانة أبوه وإقدمها على الدخول في علاقات مع رجال آخرين "حصل منك تصرفات كنتي تفضلي إن ابنك مايعرفهاش؟" الأم هنا تخطئ وتحاسب تهمل وتفكر في نفسها بل وترفض الاتهام في البداية ثم تغلبها الأمومة لتعترف بخطاياها، وكأن الفيلم هو نوع من التطهير ليحيى وعائلته وخاصة النساء اللاتي وجدن في حياته "الأم الأخت الزوجة والابنة".



رغم أنه يحمل واحدة من أكبر خطايا يوسف شاهين، من حيث اختياره لداليدا للقيام بدور صديقه، ولكنه يظل واحدا من أفضل أفلامه، في هذا الفيلم يتجاوز شاهين نموذج الأم إلى نموذج الجدة التي تسعى بمثالية إلى إنقاذ حفيدها من الكوليرا، صديقة هنا تحب، يتعلق قلبها بالمعلم الذي لا يقدر على أن يتخذ قرارا في حياته الخاصة؛ فأمه من تختار له عروسته، الجدة هنا تعيش حالة حب من طرف واحد أو من طرفين لا يستطيع الطرف الثاني أن يبوح به حتى لنفسه.


وعلى جانب آخر، تتعرض الأم لحالة مطاردة من "عُكة" العاشق الولهان الذي يعشقها، ويحاول أن يجعلها تعشقه بدورها، تحاول الأم أن تستغل هذا العشق ليساعدها في السفر إلى الإسكندرية حيث البحر وحلم الشفاء، مرة أخرى يقدم شاهين نموذج الأم التي تحب وتعشق وتُعشق، وتستغل إذا جاز التعبير هذا العاشق لتحقيق مصلحة ما.


وبينهن أمور متشابهات



أما في فيلم "المصير" الذي عرض عام 1997، فبه نموذج للأم يشابه النموذج المثالي من حيث التفاني والإخلاص والرغبة في مساعدة الجميع، ولكن دون الخوض في الشخصية المنزوية والمسطحة البعيدة عن الاحداث الام هنا شخص ذو قرار وشخصية تعترض وتوافق تساند وتدعم وترفض، تتذكر وتحب وتخجل وتصرح، رغم مثاليتها فهي أم حقيقة وليست صورة في برواز.



في فيلم "الآخر" عام 1999 يقدم شاهين نموذجين للأم سواء أم آدم "مارجريت" أو أم حنان "بهية"؛ النموذجان هنا يُقدمان بكل ما بهما من تشابه واختلاف، الأول مارجريت هي أم عنصرية متعصبة لابنها بل وتراه الرجل الكامل ترغب فيه لنفسها فقط دون أخرى، علاقة معقدة تجدر بمأساة شكسبيرية، الأم تشتهي ابنها وتعلم أن الأمر غير صحيح، وفي الوقت نفسه لا تخفي أو تخجل من شيء.


على النقيض نجد بهية الأم التي مازالت تُظهر احتياجها للحب والجنس عن طريق تذكرها لزوجها وكيف كان يعاملها، وتحتوي ابنتها وتحاول أن تقف بجوارها وتساندها نموذج خيّر ونموذج شرير نموذج ترفضه ونموذج تتعاطف معه، هذا تراه أيضا في فيلم سكوت ها نصور وفيلم اسكندرية نيويورك وفيلم هي فوضي.


شاهين أخرج الأم من ذاك البرواز المغلق الذي كانت تعيش فيه؛ فإما شخصية خيرة تجلس لتدعي لأولداها بصلاح الحال أو تضحي من أجلهم أو المتسلطة التي ترى أن سلطويتها تلك هي حماية أبنائها وعائلتها من الانهيار إلى فضاء أرحب. فضاء آدمي تخطئ فيه الأم وتُعاقب وتحب وتحتاج وترغب وتشعر، فضاء حميمي يقترب من المشاهد ومساحة حقيقية تتحرك فيها شخصية الأم حتى ولو كان في أدوار الشر.