التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 02:13 م , بتوقيت القاهرة

روز اليوسف.. المجد يبدأ من غرفة الأخبار

إذا كتب تقريرًا عن إعلاميات توجهن للفن لن يندهش القارئ، لكن إذا كان العنوان: "الفنانة (...) تعتزل الفن وتعمل صحفية"، من المؤكد أن هذا الخبر سيكون الأكثر قراءة، أن تترك نجمة مجدها الفني وتتفرغ لتبويب مجلة، قصة لم تحدث في الواقع قبل أغسطس 1925، حينما قالت الفنانة المسرحية "روز اليوسف" ببساطة: لماذا لا أصدر مجلة؟

كانت روز اليوسف بطلة فرقة رمسيس، تبلغ 28 عامًا فقط، حينما قررت اعتزال التمثيل على خشبة المسرح المصري، بعدما وصلت إلى مستوى فني جعل النقاد والجمهور يشبهونها بأفضل ممثلات المسرح الفرنسي "سارة برنار"، عندما أدت دور مارجريت جوتيه في غادة الكاميليا، لكن تلك الشابة الطموحة العنيدة، كانت تريد ترك المسرح قبل أن يتركها، خاصة بعد خلافاتها مع رؤية بطل الفرقة يوسف وهبي، لهذا بحثت روز اليوسف عن بداية جديدة تخلد اسمها، لم تكن تملك سوى 5 جنيهات، وشقة في شارع جلال، خمسة وتسعين سلمة يصعدها المحررون "المساكين"، ومع ذلك غامرت في مشروعها الصحفي الجريء، ولم تكن تلك أولى مغامرات تلك المرأة الاستثنائية.

سارة برنار الشرق
في مدينة طرابلس اللبنانية، عام 1898، رزق تاجر من أصول تركية متزوج من شابة لبنانية اسمها جميلة، بطفلة صغيرة اسمها "فاطمة محمد محي الدين اليوسف"، لحظة فرح لم تكتمل برحيل الأم في نفس توقيت وصول الصغيرة للدنيا، فقدت حنان الأم بوفاتها، ورعاية الأب الذي يسافر دومًا للعمل، وتربت في بيت أسرة مسيحية مقابل مصاريف يرسلها الأب شهريًا، وغيرت الأسرة البديلة اسم فاطمة اليوسف إلى روز اليوسف، كل هذا والفتاة الصغيرة تظن أنهم أسرتها الحقيقية، إلى أن صارت عبئًا عليهم عندما توقف الأب عن ارسال المبلغ الشهري، في ذلك الوقت عرضت أسرة أخرى اصطحاب البنت إلى البرازيل، وفي السفينة عرفت روز اليوسف في سن السابعة الحقيقة كاملة، وعند ميناء الإسكندرية، هربت من عائلتها الجديدة، وبدأت رحلة غامضة.
روزا ويوسف وهبي
تجاهلت روز اليوسف في مذكرتها الشخصية الإشارة إلى الفترة التي أعقبت فرارها في الإسكندرية، وكيفية وصولها إلى القاهرة، اكتفت بمرحلة ظهورها الفني ودورها الرائد في الصحافة، كانت تذهب إلى مسرح "دار التمثيل العربي"، انبهرت بالمسرح وعالم البطولات والمآسي، ولفتت أنظار عزيز عيد، الذي أعطاها الفرصة الأولى في رواية "عواطف البنين"، بعدما رفضت ممثلات الفرقة دور الجدة العجوز، فتحداهن عزيز عيد، وجعل من الفتاة الصغيرة كهل عجوز، وأصبحت الممثلة الأولى في فرقة جورج أبيض، ثم انتقلت إلى مسرح رمسيس مع يوسف وهبي. 
روز اليوسف
لم تكن روز اليوسف تعرف القراءة والكتابة، وتعلمت في سن كبير، لم تكن تجيد كتابة المقال الصحفي، كانت تملي أفكارها الجريئة على أحد الصحفيين ليصيغه في شكل مقال، ويرجع السبب الرئيسي في تحولها من فتاة جاهلة إلى طليعة مثقفي عصرها إلى مكتشفها الأول عزيز عيد، وهذا ما ذكرته الصحفية أميرة خواسك في كتاب "رائدات الأدب النسائي"، وأشارت إلى أن عزيز عيد آمن بنبوغ تلميذته فأخذ يعلمها بكل قواه، أخذ يشتري لها الكتب لتقرأ، وأحضر لها شيخا يلقنها دروسا في اللغة العربية نظير خمسين قرشا في الشهر.

مجلة روز اليوسف

في عشرينيات القرن الماضي، كانت المرأة تحارب من أجل تعليمها فقط، بينما روز اليوسف تسبق بنات جيلها في معركة شرسة لتحصل على مكانة بارزة في الوسط الصحفي، في محل كساب للحلويات جاءتها الفكرة (أغسطس 1925)، بعدما أعطاها بائع الصحف عدد مجلة الحاوي التي تنتقد الفنانين بقسوة، وعلى الفور تعرض مغامرتها الصحفية على أصدقاءها، وزادت دهشتهم عندما قررت أن المجلة الفنية سوف تحمل اسمها "روز اليوسف"، وكانت معضلة أن تصرف القارئ عن التركيز على اسم نجمتهم، إلى الاهتمام بعدد المجلة التي صدرت في 26 أكتوبر 1925. 

كانت الأعداد الأولى لمجلة روز اليوسف مقالات نقدية مطولة، لكتاب كبار مثل عباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، ما جعل المجلة نخبوية بموضوعاتها الفلسفية، ما جعل روز تفرد مساحة كبيرة للصحفي محمد التابعي، الذي كان يكتب صفحة بعنوان "طورلي"، وبدأ عملية تغيير السياسية التحريرية، وكتب التابعي المجلة من الغلاف للغلاف بطابع خفيف وفكاهي، ونجحت روز اليوسف المرأة والمجلة. كانت تجمع الاشتراكات، وتوزع الدعاية على المحلات.

استقبلت روز اليوسف، الطلبة والصحفيين الجدد، وجعلت من مصطفى أمين نائبا لرئيس التحرير، وكان عمره وقتها 17 عاما، واستطاعت اقناع محمد التابعي، بالتحول من كاتب فني إلى سياسي ساخر، يهاجم الحكومة بأسلوب رشيق لم يلق اعجابا من حزب الوفد، تصادر اعداد المجلة، والتابعي يحاكم بتهمة العيب في الذات الملكية، وروز تتعرض لشبح الافلاس، وتقف في تحقيقات النيابة متهمة، كل هذا العناء كان ينتهي حينما تمشى في الشوارع يوم صدور مجلتها وتسمع الباعة يصيحون: روز اليوسف.. روز اليوسف! كان نداء باعة الجرائد في أذنها كالموسيقى.

الغريب أن روز اليوسف كانت شخصية تجمع المتناقضات في ذات الوقت، قاسية جدًا وحنونة، تصفع بالأيدي محمد التابعي لخلاف في السياسة التحريرية، ثم تعود وتعتذر، تغامر بالتحول من مجلة فنية إلى سياسية، بدعم من حزب الوفد، ومع ذلك تفرض شخصيتها المستقلة في اتخاذ القرار، تتابع أعمال المنزل، وتحاسب الطباخ وتشترك في تقشير البصل، وتحاسب أيضا في الصباح النحاس باشا، والنقراشي وصدقي، حاول ابنها احسان عبد القدوس أن يكتب في مقال عن تلك المرأة التي كانت "تشخط" في الجميع وتخصم من رواتبهم، لكنهم كانوا يرون في ابتسامتها حنان الأم وقسوة الأستاذة، ولكن المقال عاد له بتأشيرة بقلم أحمر تقول فيها روز اليوسف لابنها: "يا بارد خلى غيرك يقول الكلام ده".

جنيه مصطفى أمين

 بعد تسع سنوات، يخرج محمد التابعي من مجلة روز اليوسف، حيث كان من المفترض أن يسافر مصطفى أمين إلى الإسكندرية لتغطية صحفية، وأعطته روز اليوسف جنيها للسفر، وكان التابعي يريد السفر إلى الإسكندرية أيضا، وطلبت روزا من مصطفى التنازل عن السفر لكنه أصر، فقالت له: "رجع لي الجنيه"، وأعاد إليها الجنيه بطريقة غير لائقة فطردته من المجلة.. في هذه اللحظة قال لها التابعي إنه خارج مع مصطفى أمين.

رأت روزا أن هذا الموقف "تافه"، لكنه أحدث هزة في مجلة روز اليوسف التي فقدت معظم طاقم التحرير، شباب جددوا دماء الصحافة المصرية، وبدأ المقربين ينذرون روز اليوسف بأن مجلتها ستموت، لكن طبيعتها التي ترفض العودة للوراء تقرر اثبات العكس، وتصدر جريدة يومية اسمها "روز اليوسف".

للمرة الثانية تدخل روز اليوسف معركة إصدار مطبوعة صحفية، تقرر أن تحمل الجريدة اليومية طابعًا مميزًا في التبويب، أضافت أبواب للأطفال والتسلية، وأدخلت الكاريكاتير لأول مرة في صحيفة يومية، وضمت في أسرة التحرير محمود عزمي، و عباس محمود العقاد، الذي رفض في البداية أن يعمل في جرنال يومي يحمل اسم واحدة ست، لكنه وافق وفق شروطه الخاصة، ما عجل بالصراعات قبل صدور العدد الأول لجريدة روز اليوسف، لأن روزا أحضرت أهم كتاب صحفية الجهاد الوفدية، ما جعل الأمر يبدو نزاعًا سياسيًا بين جريدتين تؤيدان حزب واحد، ورفض النحاس مباركة العدد الأول بمقال افتتاحي، وفي الرحلات الخارجية واجه كامل الشناوي تعنت الوفديين في تغطيته الصحفية لروز اليوسف.

فتيات روز اليوسف 
كان توزيع الصحف في مصر مقسم على أربع متعهدين، وكانت روز اليوسف الأسبوعية، يتولى توزيعها المتعهد "علي الفهلوي"، رجل ابن بلد يرتدي الجلباب والطربوش، ويتخذ من مقهى موقعًا لإدارة أعماله، وكان موفقًا في نشاطه، حتى حدثت هزة في معدلات التوزيع للمجلة، منتصف عام 1934، وعلمت روزا أن بعض الصحفيين المنافسين يطلبون من الموزع إخفاء أعداد المجلة.

تقوم روز اليوسف بزيارة مفاجئة للمعلم علي، وتتحجج برغبتها في مناقشته في بعض أمور التوزيع، وعن قصد تذهب إلى مخزن المطبوعات الصحفية الخاص به بدلا من باب المقهى، وتجد هناك نسخ مجلة روز اليوسف التي كان يجب عليه توزيعها في السوق. في تلك اللحظة تقرر روزا القيام بمغامرة جديدة.

تعهدت روزا لمتعهد الصحفي الأفرنجية "سيد خضير" بتوزيع العدد الأسبوعي لروز اليوسف، ما أدى إلى نشوب حرب تنافسية بين الموزعين، الذي كان لهم سطوة على باعة الصحف، ولأول مرة يصبح في القاهرة أكثر من متعهد توزيع، وقد كانت تلك الخطوة سببًا في نشأة شركات توزيع الصحف، والتي بدأها جبرائيل تقلا صاحب مؤسسة الأهرام.

ولم تكتف روز اليوسف، بصراع متعهدي توزيع الصحف، واستلهمت من فرنسا فكرة بائعة الصحف، وجلبت 50 فتاة لتوزيع المجلة الأسبوعية، بدلًا من العمل في الشحاذة أو بيع السجائر، ووضعت روز اليوسف نظامًا لحمايتهن من التحرش، لكن هذه التجربة لم تلق النجاح الذي توقعته، واكتفت بانتصارها على محتكري توزيع الصحف.