التوقيت الثلاثاء، 26 نوفمبر 2024
التوقيت 06:34 ص , بتوقيت القاهرة

عبد الله غيث.. قالوا علينا ديابة

عبدالله غيث
عبدالله غيث

لم يتوقع أحد في عائلته أو أصدقاؤه، أن "أخر العنقود" والفتي المشاغب المدلل، سيصبح بعد سنوات قليلة ذلك النجم صاحب الهيبة والحضور الطاغي، لم تتوقع والدته أن تعلقه بالمسرح والسينما، سيسفر عن "غول" فني من الطراز الأول، ويتحول ابنها إلى اسطورة مسرحية عظيمة، قبل أن تهدأ طباعه ويصبح الوقار والرزانة هما سمات "الشديد" عبد الله غيث.


آخر العنقود


عبد الله غيث وفاتن حمامة فيلم الحرام


ولد في الشرقية تحديدا في كفر شلشلمون بمنيا القمح يوم 28 يناير من عام 1930، والده كان عمدة القرية، ولكنه لم يكن اميا او بسيط الحال، فعائلته من "أعيان" الشرقية ووالده كان يدرس الطب في لندن حينما استدعوه لتولي "عمودية" قريته خلفا لوالده، فعاد وكانت الحرب العالمية الأولى تدق أبواب أوروبا، ليتزوج وينجب 5 أطفال، كان أصغرهم عبد الله.


في صباه كان عبد الله هو المثال الحي على مبدا أن أخر العنقود هو مشاغب العائلة، دراسيا كانت مسيرته متعثرة، كان دائم الهرب من مدرسته والذهاب الى المسارح دور العرض في الحفلات الصباحية، وبما يرجع البعد مشاغبة عبد الله غيث لوفاة والده صغيرا، بالكاد يحصل عبد الله على شهادة الإعدادية وبالكاد يحصل على الثانوية، ثم يتفرغ للعمل في زراعة أراضي عائلته، ولكنه لم ينسى مشاغبته ابدا.


رغم انه شقيقه الأكبر كان كبير العائلة إلا انه لم يستطيع السيطرة وحده على عبد الله، حيث كان حمدي في القاهرة بسبب انشغال بالدراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية ثم التدريس فيه بعد ذلك، حيث كان عبد الله دائم الوقوع في المشكلات بسبب مشاغبته، ولم يدري أحد ان تلك المشكلات ستصبح السبب الرئيسي في دخوله عالم الفن والمثيل، بل إنها أهدت المسرح والفن العربي فارسا مسرحيا لا يشق له غبار.


عبد الله غيث


"إلحق أخوك ها يفضحنا ويجبلنا المصايب" ربما كانت تلك الجملة التي قيلت لحمدي غيث، او قيلت جملة أخرى تحمل نفس المضمون، وجعلته يترك ماله وما عليه في القاهرة ليعود مسرعا إلى الشرقية، لينقذ ما يمكن إنقاذه، وبعد الكثير من المداولات والجلسات استقرت العائلة ان يسافر عبد الله غيث لاستكمال تعليمه في القاهرة تحت رعاية "حمدي" ليختار عبد الله غيث ان يدرس التمثيل.


بالفعل يدخل عبد الله غيث المعهد العالي للفنون المسرحية، ليتتلمذ على يد عدد كبير من الأساتذة ومن بينهم شقيقه حمدي غيث، وفجأة تحول هذا المشاغب المتعثر دراسيا لطالب نابغة حتى انه انضم لفرقة المسرح القومي وهو ما يزال طالبا في المعهد الذي تخرج منه عام 1955.


الشديد


عبدالله غيث


وحتى أخر أيام حياته كان عبد الله يزور بلدته بصفه مستمرة، حتى بعدما أصبح أحد اعلام التمثيل في مصر، وكان دائم التقرب من الفلاحين واهل قريته، ويجلس معهم لمعرفة مشكلاتهم ويحاول إيجاد حلول لها، وهو ما دفعهم لكي يطلبوا منه ان يترشح للعمودية بعد وفاة أخيه الأكبر، وبالفعل وافق عبد الله مبدئيا على الفكرة، إلا انه تراجع عنها متنازلا عن المنصب لابن عمه بسبب انشغاله بالعمل الفني.


في المسرح ربما نحتاج لكتب كثير لنتحدث عن صولات الفارس "الشديد" فيه، يكفي القول ان السيدة جيهان السادات بكت حينما مات في مسرحية الوزير العاشق، ولكن في مسيرة عبد الله غيث المسرحية كان دائما هو الاختيار الأول للأدوار المعقدة والمركبة، بقدرة لا محدودة على التمثيل كان يتصدى لتلك الأدوار ببساطة ويسر، مثل دوره في الوزير العاشق أو مسرحية الفتى مهران أو مسرحية زيارة السيدة العجوز.


للتلفزيون أيضا نصيب في موهبة عبد الله غيث، ربما كان صاحب النصيب الأكبر بعد المسرح، وأكم من الأدوار التي قدمها عبد الله غيث في التلفزيون محفوظة في ذاكرتنا، لعل أشهرها دور عباس الضو في "المال والبنون" ودوره في ذئاب الجبل، او دوره الأول في مسلسل هارب من الأيام ومسلسل محمد رسول الله، حتى انه أطلق عليه لقب " ملك الفيديو".


 


لعبد الله غيث لقب اخر ليس متداول إعلاميا، وهو لقب "الشديد" ولهذا اللقب قصة رواها بنفسه عبد الله غيث في برنامج تلفزيوني يدعى "سواريه"، قال ان من أطلق عليه هذا اللقب هو الفنان الراحل صلاح قابيل، حيث جمعهم أحد الاعمال التلفزيونية، ليصادف أن صلاح قابيل كان يقف خلف الكاميرا حينما كان يمثل عبد الله أحد مشاهده، لينتهي المشهد بإعجاب جميع من في الاستديو، ليفاجئ الجميع بصلاح قابيل وهو يقول " إيه ده؟! ده شديد" ليصبح لقبه داخل الوسط الفني من بعدها " الشديد"


حمزة الحائر بين أنطوني وعبد الله


مصطفى العقاد يتوسط انطوني كوين وعبدالله غيث


رغم ان مسيرته السينمائية لم تكن بحجم مسيرته في المسرح او التلفزيون إلا ان عبد الله غيث ترك بصمة في العديد من الأدوار التي قدمها  مثل دور " ادهم الشرقاوي" و"جفت الامطار" وفيلم "الحرام" و السمان والخريف وغيرها من الأفلام إلا ان اكبر واهم عمل شارك فيه عبد الله غيث هو فيلم الرسالة للمخرج مصطفى العقاد، والذي صور بنسختين الأولى عربية يؤدي الأدوار فيها ممثلون عرب بينما الأخرى انجليزية يؤدي الأدوار فيها ممثلين من جنسيات اجنبية، وكان نصيب عبد الله غيث ان يكون نظيره في النسخة الإنجليزية هو العالمي " أنطوني كوين".


ويروي عبد الله غيث تفاصيل اختياره لأداء دور حمز في الرسالة قائلا " ذات يوم كنت اجلس في المنزل ليرن الهاتف لأجد منتج بريطاني يحدثني عن عمل عالمي لمخرج عربي شاب يدعى مصطفى العقاد، في البداية لم أهتم كثيرا نظرا لأن التجارب التي سبقت الرسالة في الاستعانة بممثلين عرب في أفلام عالمية لم تكن جيدة، واغلبهم قدموا أدوار لا تليق بمكانتهم الفنية، ولكنني ذهب في الموعد المحدد للقاء العقاد".


" وجدت نفسي امام شاب عربي خفيف الظل، قال لي العقاد إنني مرشح لدور حمزة ولكنه –المخرج-ليس هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة بهذا الشأن فهناك لجنه فنية منعقدة في لندن، سيتم عرض عمليات اختيار الممثلين "الكاستنج" عليها لتقرر هي من الأنسب للدور، وبالفعل خضعت لتجربة الأداء وانصرفت عائدا لمنزلي".


" بعد شهر تقريبا وجدت مصطفى العقاد يحدثني هاتفيا يخبرني أنه تم اختياري لأداء شخصية حمزة، وان نظيري الأجنبي هو انطوني كوين، الغريب في الامر ان انطوني كوين كان مرشحا لأداء دور " أبو سفيان" إلا انه حينما قرأ الفيلم أصر على ان يقوم بدور حمزة، اصابني الخوف، فأنطوني كوين في رأيي هو أحد أفضل الممثلين في العالم، وان يكون نظيري في النسخة الأجنبية تحدي ليس بالهين، ولكنني قررت خوض التجربة لنهايتها".


" سافرت للمغرب حيث كان التصوير قائما، وكان يتم تصوير مشاهد النسخة الإنجليزي أولا، ثم يدخل الممثلين العرب لتصوير نفس المشاهد في النسخة العربية، ويوم التصوير كنت قد هيأت نفسي للوقوف والتعلم من "كوين" ثم تقليده وإذا استطاعت ان اضيف على الدور تفاصيل خاصة بي فعلت ذلك".


عبد الله غيث ومنى واصف ومصطفى العقاد وأيرين باباس وانطوني كوين


" ولكن قبل تصوير مشهدي وجدت مساعد انطوني كوين يبلغني انه يريد ملاقاتي، فذهبت إليه فإذا به يطلب منى ان أقوم بتمثيل مشهدي أولا حتى يتعلم مني، فهو يريد ان يكون عربيا بحق، لا مثل أقرانه الأجانب الذين رغم محاولتهم يبدون مجرد "خواجات" يرتدون ملابس عربية، وقد كان وقمت بتمثيل المشهد أولا لأجد ان انطوني كوين يقول إنني لو كنت اعمل في أوروبا أو أمريكا لكان لي شان اخر وكنت أحد نجوم السينما العالميين".


اثناء قيام عبد الله غيث بدوره في مسرحية "اه يا غجر" وفي نفس الوقت تصوير دوره في مسلسل ذئاب الجبل، شعر بتعب شديد، ولكنه كان يكره الأطباء، ولكن حينما اشتد المرض عليه ذهب للطبيب ليكتشف إصابته بسرطان الرئة وسرطان الكبد وانه في مرحلة متأخرة للغاية، تحاول غيث على نفسح حتى انتهى من عرض مسرحية "أه يا غجر" ولكن حالته الصحية سالت للغاية ونقل للمستشفى قبل ان ينتهي من دوره في "ذئاب الجبل" حيث تبقى له 4 مشاهد لم يتم تصويرهم.


في المستشفى فوجئ عبد الله غيث بوفد من الجماهيرية الليبية موفد من قبل الرئيس الليبي وقتها " معمر القذافي" ليبلغوه أن بانتظاره في المطار طائرة مجهزة لنقله للعلاج في أي مكان في العالم على نفقة القذافي، ولكن أطباء عبد الله غيث أخبروهم أن الوقت قد فات، لتصعد روح عبد الله غيث إلى بارئها في 13 مارس عام 1993، عن عمر يناهز 63 عاما.