صباح.. والانحياز المتأخر إلى زمنها
خلال أولى سنوات مراهقتي مطلع الثمانينات شاهدت الفيلم الشهير آنذاك "ليلة بكى فيها القمر" للمطربة صباح. جسد هذا الفيلم شيئًا من حكايتها، حكاية النجمة المعروفة الناجحة والمُغوية والتي تتعرض في حياتها لخيبات الحب والخيانة والاستغلال.
كرّس هذا الفيلم في نفسي موقفًا سلبيًا من هذه المرأة المشهورة والتي كانت في خمسينياتها آنذاك. غلبني التناقض، إذ كنت أعجب بحيويتها وأناقتها وصوتها لكن كان إعجابي الخجول هذا أسير رفض لإغوائها وأنوثتها التي لم تحل السنوات دون تباهيها بها. كُنتُ أتساءل كيف لسيدة "كبيرة" أن تختال برداء البحر وتبالغ في التحرر مظهرًا وأداءً. اعتقدت أنها أكثرت من مشاهد القبلات مع شاب (الممثل حسين فهمي) هو أصغر منها. أدت دورًا عاطفيًا بما فيه من غُنْجٍ ودلال رأيته في حينها أشبه بالتهتك وبغير اللائق بسيدة في سنها وبموقعها كمطربة شهيرة تتقدم في السنّ.
هذا الفيلم حسم موقفي المتذبذب بين أشهر مطربتين لبنانيتين صباح وفيروز، وقررت أنني منحازة إلى فيروز.. كنت كما كثير من اللبنانيين عالقة في مقارنة دائمة بين المطربتين اللتين لم تحسم المنافسة بينهما قدرات الصوت وحده، بل كان للهوية وللدور الذي تؤديه كل منهما موقعا في المنافسة. ولم يكن صعبا آنذاك بالنسبة لي أن تتفوق فيروز وأن أرى فيها تلك الهالة المنيعة عن الابتذال، فهي التي تجسد الوطن والحب الرومانسي المُنزه عن الدلال والرغبة فلا تخدش حضورها بدلع من هنا وغوايات من هناك.
أقلعت عن الاستماع إلى صباح وبالغت في الانحياز إلى فيروز.
تملكتني الهوية "الوطنية" التي شكلتها في وجداني أغاني فيروز والرحابنة وكنت حينها أعيش مع والديّ في الخليج فكان لبنان موطنا لا أسكنه ما جعل وقع أغاني فيروز مضاعفا في وجداني. عشقت ذاك الوطن المتخيل لا ما هو عليه حقيقة أو هذا ما اتضح لي لاحقا. شعرت في تلك المرحلة من عمري أن صباح تخدش هذا الوجدان الذي كونته عن بلدي وأنا بعيدة عنه وتقدم لي هوية عن المرأة وعن لبنان غير تلك التي حسمت انحيازي إليها.
لا تهدف هذه الخواطر لاستعادة كيف حصل التحول في موقع صباح بالنسبة لي ولكثيرين غيري ربما، لكنه حدث كجزء من تغيير وعيي تجاه أنوثتي وتجاه موقفي من نفسي ومن الآخرين وتجاه لبنان. ترافق ذلك مع شعور عارم بالخيبة وبالخجل تجاه ما اقترفته سراً تجاهها وتجاه جُرأتها وصراحتها وحبها لنفسها كامرأة والتي باتت اليوم مكان إعجاب واحترام كبيرين عندي. وها ظهر كم كان موت الفنانة صباح مناسبة للنقاش حولها وحول الصورة التي لم تتردد يوما في تقديمها عن نفسها وعن لبنان وعن الزمن الذي أطلقها ثم غادرنا دون أن تغادره هي.
والنقاش في هوية وحياة امرأة كصباح هو نقاش يتعلق بهويتنا كنساء وكلبنانيين ولبنانيات أيضا. هذه الهوية التي أربكتنا منذ نشأة وطننا ولا تزال حتى اليوم بحيث نتحين فرصة لنعاود نقاشها وطرحها على بساط البحث مع ذواتنا ومع الآخرين.
طبعا لم تطرح صباح على نفسها هذا النقاش بل نحن من أشبعنا حياتها وسنوات عمرها التي ضقنا ذرعا بامتدادها جدلا وتحليلا، وها نحن نفعل ذلك بعد رحيلها.
كان موت صباح متوقعا ومنتظراً لكنه لم يخلُ من الحزن ومن الحنين رغم كل الصخب الذي ميزها. فحياة صباح حملت تلك الأبعاد الدرامية التي تجعل من حياتها حكاية فريدة. فطفولتها جرحت بمقتل شقيقتها الكبرى برصاص طائش ولاحقا قتلت أمها على يد شقيقها.
حاولت عبر الغناء الفرار من سطوة والدها. تكرر فرارها عبر تعدد زيجاتها التي كانت في بداياتها سبيلا إلى الخلاص قبل أن تتبدل لتصبح بحثًا عن عاطفة لم تتوافر لها يوما. لذا بدا في انكباب كثير من وسائل الإعلام العربية على تفنيد زيجاتها ليلة وفاتها وقاحة وابتذالا والأهم جهلا كبيرا بحياة هذه المرأة. والدراما الشخصية ليست هي وحدها من صنع صباح وصنع حكايتنا معها، فهناك أيضا الزمن اللبناني الذي كانت صباح بفرحها ودلالها من أبرز تجلياته.
بكى لبنانيون ولبنانيات صباح، ليس فقط لأنها امرأة جميلة مُحبَة صوتا وصورة قد رحلت.
بكينا في رحيل صباح لبنان لا ننفك نتنبه إلى أنه لم يعد موجودا بل ربما لم يكن أبدا.
وداعًا صباح..