نادية لطفي.. لوحة كاملة الألوان
جدران منزلها مزينة بلوحات عديدة، بينهم لوحة لوجهها مربع التكوين الذي يحمل بين صفاته الإصرار والتحدي والطاقة والشجاعة وحب المغامرة، ولوحة أخرى لفتاة ترقص، وثالثة لوجه سيدة عابث وراء ما يشبه القضبان الخشبية، بينما تجلس بولا محمد مصطفى شفيق أمام مكتبها وتصر على قراءة أكثر من 100 جواب من جمهورها وترد بنفسها، مؤكدة أنه سيشعر بالغضب منها إن لم تبادله نفس الاهتمام.
ترى أن حياتها "لوحة" واحدة بها كل الألوان، حتى اللون الأسود والإخفاقات جزء لا تنكره، وعندما سألها المذيع طارق حبيب عن حرف الألف، ذهبت عينيها إلى أقصى اليمين وسبق ردها إيماءة صغيرة ولم تجد غير "الإصرار" مقابل للحرف الأول في اللغة العربية، مؤكدة أنه من أهم الصفات التي تتسم بها شخصيتها ذلك على تكوينها الجسدي وملامحها.
ومن طفولة الأنثى بولا التي كانت تحب الكلاب والشجر والحدائق، ملمح يؤكد على وجود صفة الإصرار، فكانت طفلة شقية ولم تكن تلميذة نجيبة، ولم يخجلها الأمر فترى أن الرسوب في إحدى مراحل المدرسة ليس نهاية الحياة، لكن من الممكن أن ترسب لتكتسب خبرة فتكون أفضل في العام المقبل.
"الطفل يتعلم في المدرسة ويعرف الحروف ليكون جملة تُعبر عن ذاته هو لا عن غيره.. مش لازم نخوفه".
كان لوالد الفنانة نادية لطفي التي قدمت أكثر من سبعين عملًا فنيًا، أثرًا كبيرًا في شخصيتها، فتحكي أنه دللها كثيرًا لكن في إطار تمثلت أهم نقاطه في الحفاظ على الذات وألا تُهين روحها، كما تعلمت من والدتها أن تحترم وتقدر ظروف الآخرين وألا تكون كثيرة الرفض من أجل الرفض.
روايتان مختلفتان اقترنتا بدخول بولا إلى عالم الفن أولهما أكدته هي في حوار مع مجلة الجزيرة مفاداها أن والده الرجل الصعيدي المثقف الذي أحب السينما لم يعارض عملها بالفن بل أصر على عدم الانصياع لغضب الجد والعم ووافق الأم في رأيها أن من حق بولا اختيار ما تريد مشددة "أنها محل ثقتهما"، أما الرواية الثانية والتي لم تتعرض لها كانت تشير إلى أن والدها عارض فكرة العمل بمجال الفن، لكنها أصرت على تحقيق حُلمها وبدأت هذا المشوار عقب زواجها الأول.
حياة بولا الفنية بدأت باختبار تمثيل أمام المخرج نيازي مصطفى وبدعم من المنتج رمسيس نجيب الذي تنبأ لها بمستقبل جيد في عالم الفن، لتكون بطلة فيلم "سلطان" أمام الفتوة فريد شوقي.
وللأعمال الفنية نصيبًا من إصرار القطة وشغفها باكتشاف الأشياء، فهي لم تكتف بتقديم دور الفتاة الأرستقراطية أو "الفيدت" الرقيقة التي يُعجب بها الشباب كما كانت في "قاضي الغرام" و"الخطايا" و "السبع بنات" و"مذكرات تلميذة"، بل كانت لويزا القديسة المتسامحة ذات الوجه الملائكي في "الناصر صلاح الدين".
وفاجأت الجمهور بشخصية الراقصة زنوبة التي لا تمت لها بصلة في فيلم "قصر الشوق"، وكانت تلك السيدة التي تُدعى سهير تنتمي لمنطقة شعبية وتفتقد الحب في علاقتها بزوجها بفيلم "بيت بلا حنان"، وأصرت على تقديم دور إلهام الزوجة التي يغيب عنها زوجها فتخونه فتقرر الانتحار رغم أن الكثيرين حذروها من أن الجمهور سيكرهها بعد تقديمها هذا الدور بفيلم "الخائنة".
وعن إصرارها لتقديم هذه الأدوار أوضحت أنها رأت فيها تحدٍ كبيرٍ وفرصة للكشف عن جوانب مختلفة من قدراتها الفنية بل واكتشافها كإنسانة لمشاعر إنسانية وبشر يختلفون عنها تمامًا، فعلى سبيل المثال قامت بالتواصل مع راقصات من شارع محمد علي من أجل دورها.
ترتدي ملابس غريبة عنها وربما تكون رسمت حسنة صغيرة أسفل عينها اليسرى أو وضعت شامة بالقرب من فمها، ممسكة بسيجارة بعدما أطلقت سراح شعرها الذي غيرت لونه إلى الأسود، يطرق الأديب الراحل أمين يوسف غراب بابها فتفتح نادية لطفي لاستقبال الطارق فتجد صديقها يسألها باستغراب من هذا الوجه الذي يراه لأول مرة "هي فين المدام لوسمحت؟" قاصدًا نادية لطفي، فتبكي نادية من فرط الضحك، لتصر على تقديم دور فتاة الليل ريري في فيلم "السمان والخريف" بعد فترة لا بأس بها من التفكير والتردد.
"السمان والخريف عن كبرياء الإنسان.. الكبرياء هو اللي بيخلق إنسان بعيدًا عن مهنته أو سماته المادية .. الكبرياء بيخلي الإنسان جدير إنه يكون مواطن وإنسان... هذا ما فهمته من الفيلم".
في مطلع السبعينات ولفترة طويلة كان الجمهور ينادي المدللة بومبي -اسم أطلقه عليها والدها- باسم الراقصة "فردوس"، ذلك الدور الذي استغربت أن تُرشح له في فيلم "أبي فوق الشجرة"، فأدرك أن التحدي والإصرار له أثر فعال مرة أخرى في حياتها وتفخر بإشادة العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ بالعمل معها.
لا تتحدث ذات العيون العسلية المضيئة كثيرًا عن صعوبات تواجهها بالحياة وعالم الفن لكنها ذكرت أن مجرد التواجد في عالم الفن والاستمرار صعوبة كبيرة، وأن ترسم لك مكانة في قلوب الجمهور وتكون جدير بها صعوبة أكبر.
"أي شخص يشتكي من عذاب المهنة فالمشكلة نابعة من داخله هو، قابلت منتج ومخرج وزميل وعمال كل منهم له فضل في تقديم حرف وبناء جملة بحياتي، السينما شلال يجمع بين العلوم والهندسة والفن، وكل الأشياء الموجود في مجتمعنا نجد صورة لها بالسينما.. أحاول أستمتع بالسينما جدًا".
امتلكت القديسة المتسامحة "لويزا" أنياب وأظافر قطة شرسة تجيد الدفاع عن وطنها، وظهرت قوتها خلال مشاركتها بالحياة السياسية قولًا وفعلًا، إذ شاركت في تمريض الجرحى خلال العدوان الثلاثي وحرب 1967، وكانت أحد أعضاء الجيش الثاني الميداني وقدمت كل مجهودها بمستشفى المنيل الجامعي، وشاركت أيضًا في حرب 1973 وفي خروج فيلم "جيوش الشمس" عن حرب أكتوبر للمخرج شادي عبدالسلام الذي وجه لها التحية في بداية الفيلم.
وقامت عاشقة السفر والمغامرة التي زارت ما يقرب من 40 عاصمة، بالتجول بين محافظات عديدة لمقابلة الجنود والأسرى لتسجل شهاداتهم بشأن تجاوزات المعتدين على الأرضي المصرية وجرائمهم خلال الحرب، وكانت مدة التسجيل تقريبًا 40 دقيقة.
وفي حرب أكتوبر 1973 قرر نجلها أحمد الذي كان يدرس في أمريكا العودة إلى القاهرة ليقف بجانب الشعب المصري في حربه ضد الاحتلال الإسرائيلي وليسجل موقف ضد مساعدة أمريكا لإسرائيل واستقر في القاهرة ليدرس الاقتصاد بالقاهرة وقتها، بحسب قولها.
وفي عام 1982 أي خلال حصار بيروت من قبل الاحتلال الإسرائيلي وغاراته المتتالية على أرض لبنان، لم تخف نادية وحملت كاميرا فوق كتفها، وقفت بجوار المقاومة الفلسطينية والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات تسجل جرائم المحتل وأذاعت هذه المادة المصورة قنوات وصحف عالمية هزت المحتل ووثقت جرائمه، وكانت تردد بعين يملؤها الطاقة والأمل رغم كل شيء: "من شعب مصر إلى أبطال بيروت، لقاؤنا معاً على أرض فلسطين".
وقولًا لم تتردد بولا في وصف "شارون" بالسفاح وماحدث في فلسطين "بشع" مُدينة ذلك العالم الذي يصف نفسه بالإنسانية والتطور والتحضر من دون أن يفعل شيئًا"، " إنها مهزلة".
وكانت الضحكة في حياة السيدة التي ولدت عام 1937 رمزًا للإصرار ووسيلة للتغلب على أي صعوبات، فبعد فترة من العمر تستذكر نادية أنها كانت تلجأ لضحكة مع كل صباح كي تبدأ يومها بشكل جيد ورافضة أن تترك للحزن أو التعب أثرًا على وجهها، هي فقط تنظر للمرآة وتبتسم كي يسير اليوم كما تريد، وتذهب لعملها الذي تحبه التمثيل.
"أنا مش من الناس اللي بتقف عند أي شيء سواء كان من العذاب أو السعادة.. بحس أه لأن لو ماحستش يبقى أنا ناقصني شيء.. لكن أنا بمتص كل شيء وبنسى لوحدي وفي الأخر بكون سعيدة".
وفي مقال قديم للإعلامي مفيد فوزي بموقع "المصري اليوم" قال إنها تشع طاقة إيجابية تجذبك للحديث معها، دعمته أثناء رفده من عمله في البداية، ووقفت بجانب نجوم كثيرين في أثناء مرضهم ولم تعرقلها أي أزمة مرضية من الاستمرار في المساعدة حافظت على نفس الحماس، إنها تتصرف - وهى المرأة - بأسلوب الرجال، لهذا عندما مرضت كانت "مصر" فى منزلها، وسافرت للعلاج بالخارج وفرح الجميع بشفائها.
رغم اعتزالها لم تختف القطة المصرة نادية لطفي وراء الشمس فستجدها تشارك بفعاليات عديدة وتسعد باتصالها بأصدقائها، وتُجري اتصالات هاتفية بالبرامج لتبدي رأيها في قضية ما وتهنئ فلان بخبر سعيد وتهرول رغم مرضها لتعزية آخر.
وفي أكثر من حوار بعد اعتزالها أكدت "نادية" لطفي التي حصلت على اسم شخصية فاتن حمامة في فيلم "لا أنام"، إنها تصر على عدم الظهور في الأعمال الفنية التي تعرض عليها في الفترة الأخيرة لأنها لن تغامر بتاريخها الفني بتقديم أدوار لا تضيف لها جديد فقط الأموال مشيرة إلى أنها لا تنتظر أن يتعامل معها أحد بشكل فيه شفقة أو عطف، وتصر على ألا تبيع مذكراتها أو خواطرها رغم عرض الملايين عليها، لأنها مؤمنة أن قصة حياتها ليست للتجارة.
"ماكنتش أعرف في بداية حياتي الفنية والحياتية، إن الإصرار كان موجود ولا لأ عندي، لكن بما إني فيه في ملامحي الجسدية إصرار يبقى أكيد موجود في شخصيتي برضه... بعد مرحلة السن والخبرة الحياتية أنا عرفت إني أتميز بصفة الإصرار في أي مجال بكون فيه بصرف النظر شيء كبير أو بسيط، أنا زي القطط بيجي ليا إصرار إني أعرف ايه موجود ورا الحاجات، وبشوف بعيني الحاجة بشكل أبعد وأعمق..." إمضاء نادية لطفي.
موقع "دوت مصر" يتمنى الشفاء للفنانة الكبيرة نادية لطفي، إذ تعرضت لوعكة صحية خلال الأيام الماضية نُقلت على إثرها المستشفى.