التوقيت الإثنين، 25 نوفمبر 2024
التوقيت 02:06 م , بتوقيت القاهرة

محمود الجندي.. "فنان فقير" أقلع عن الضحك!

بلسان متثاقل يجاهد في لملمة مخارج الحروف، وصوت مُتعب متحشرج يعاند الأحبال الصوتية، وسحنة مرهقة محتقنة، يطل علينا محمود الجندي مؤخرا عبر لقاءات تليفزيونية عديدة، تتبخر سريعا ولا يبقى منها سوى سؤال واحد لحوح: لماذا أقلع محمود الجندي عن الضحك؟!

بردٍّ مقتضب صادم وحزين، يُفجع محمود الجندي كل من أدرك بداياته وفترة توهجه التليفزيونية، التي ارتبطت بالعذوبة وخفة الظل والروح المرحة والبشاشة، يفجعنا عندما يقول ببساطة ودون إدراك حقيقي لوقع الكلمة: "أضحك لما أموت".. بإمكانك أن تلتمس الصمت المطبق وتُسكت الصوت وتقتصر فقط على تفحص الوجه الذي غاضت بشاشته وانزوت ابتساماته، بإمكانك أن تلمح تشنج عضلات وجهه عندما يحاول اصطناع ابتسامة، بإمكانك أن تكتفي بمواصلة الاستماع متسلحا بالصبر والمثابرة، مستجمعا رصيد حبك وإعجابك بالرجل لتحمل تهتهاته وتلعثمه وعدم حضوره الكامل ذهنيا وبدنيا: ".. يمكن الظروف في الفترة الأخيرة أأأهــ ما كانتش آااااهـ مريحة بالنسبة لي كتيير، عشت لحظة إنني أيه بقى أبص على الدنيا.. بقى أيه الحكاية"، يسعفه المذيع لإنقاذه من هذه الوصلة الحزينة لينتقلا إلى سؤال آخر.

 

 

بإمكان محمود الجندي أن يمثل علينا ويمنحنا ضحكة، حتى ولو كانت ضحكة مصطنعة "رخمة" كالتي التصقت بشخصية رشدي في مسلسل "ابن حلال"، هذه الشخصية العنيفة القاسية، ألم توحِ ضحكة عفوية صدرت من محمود الجندي أثناء بروفات المسلسل إلى المخرج إبراهيم فخر بالضحكة التي صارت لازمة درامية لـ"رشدي" في المسلسل الذائع والشهير، والذي ناقض مفهومنا عن شخصية محمود الجندي الشخصية الطيبة.

 

 

 ألم يقل الأستاذ غسان مطر لـ"حزلقوم" في فيلم "لا تراجع ولا استسلام" إنه "طيب زي الأستاذ كمال أبو رية والأستاذ محمود الجندي".

 

 

من الإجحاف بالتأكيد أن نصنّف فنانا على أنه طيب أو شرير، بناء على أدواره الفنية، ورغم تعارفنا الذي يرقى لمستوى "الحقيقة اليقينية" على هذا، فمحمود الجندي ليس "طيبا" تماما في أدواره، فالرجل الذي نعرفه "طيبا" كان تاجر المخدرات في فيلم "الشرس"، وتاجر الآثار الطماع في مسلسل "حلم الجنوبي"، وأمير الجماعة الإرهابية في فيلم "الكباريه"، والأب القاسي في "ابن حلال"، ورئيس التحرير المخادع في مسلسل "بعد البداية"، وصاحب الكباريه في فيلم "الهرم الرابع"، لكنه كان مع ذلك بشوشا مرحا خفيف الظل، وكان صوته يشع تفاؤلا وبهجة وأملا، ويبقى السؤال: كيف تبددت خفة دم محمود الجندي؟

 

 

 

فنان فقير على باب الله والجيب مفيهش ولا سحتوت

والعمر فايت بيقول آه والقطر فايت بيقول توت

صحتنى ليه يا شاويش ده أنا كنت سارح في الملكوت

لما بنام بحلم وبعيش لما بفوق مبفوقش بموت

وتقول عليا كبير السن وأنا في قلبي ولد كتكوت

وتشوفني ببكي وبنعي وبأنّ والدنيا لسه بنت بنوت

اشمعنى قلبي ضناه الشيب من الشقا مهري ومنكوت

قال اللي قال العيب في الجيب والجيب مفيهش ولا سحتوت

العمر فايت بيقول آه والقطر فايت بيقول توت

على المحطة يا ولداه حتى المحطة كمان هاتفوت

 

رغم ثقل الكلمات ومأسويتها، والتي أبدعها الشاعر فؤاد حداد، ولحنها محمد الشيخ، إلا أن أداء محمود الجندي لها، ضمن ألبوم «فنان فقير جدًا» منحها حس سخرية ينضاف إلى خفة دمه، تلمح في صوته تقافزا طفوليا و"تريقة على حال الدنيا"، تلمح روحه تتراقص مع الألحان والأداء التمثيلي المنغم، تلمح فيها ما تعارفنا عليه، محمود الجندي العذب الصافي رقيق المعشر خفيف الظل البشوش، رغم أن هذه الفترة كان محمود الجندي يقاسي ويلات الحياة ويعيش ضوائق مالية متلاحقة.

 

 

وإن أردت الفارق بين هذا الأداء الذي يحمل بصمة وروح "الجندي"، اسمع الأغنية بصوت وجيه عزيز لتنقلب حالتك تماما وتشعر بمدى مأسوية الوضع.

 

 

 

 

تمر السنين على محمود الجندي مترددا بين الخفوت أحيانا والبزوغ أحيانا أخرى كبطل مساعد و"سنيد" في أفلام شهيرة، تمر الأزمات من الضائقة المالية وفشل مشروعات إنتاجية غامر بها، إلى أزمة احتراق منزله ومصرع زوجته حرقا وأزمة ما أشيع عن "زعزعة إيمانه" وطلاقه من عبلة كامل وفترة "دروشة" دخل به، تمر الأزمات ويعبرها الرجل، إلا أنه كان ملازما للابتسام ولخفة الظل، التي يتحادث عنها جميع معارفه، وتكاد تكون لازمة في التعريف والتقديم بشخصيته، شخصية محمود الجندي ابن أبو المطامير بمحافظة البحيرة (مواليد 24 فبراير 1946).

 

يبدو محمود الجندي غاضبا، مؤخرا، فالرجل أعلن فجأة الاعتزال فور الانتهاء من ارتباطاته الفنية احتجاجا على منظومة الفن برمتها، معلنا عن سر غضبه، وهو عدم الاهتمام المادي بأجره، والأدبي باسمه وصورته في الدعاية التي تصاحب الأعمال الفنية التي شارك بها في المسلسلات الأخيرة، كما يقول، إلا أن مهلة الانتهاء من الارتباطات الفنية جلبت للرجل ارتباطات جديدة، ويبدو أنه لم يكن قرارا جديا على كل حال، أو ربما بسبب التزامات مالية اضطرته أيضا إلى المشاركة في إعلانات للترويج لمستحضرات طبية غير مرخصة، والمشاركة في "تضليل الجمهور وتعريض حياتهم للخطر".

 

يقول الناقد الفني طارق الشناوي:  "لمحمود الجندي إحساس يتفاقم منذ عامين بأنّ وجوده في الدراما غير لائق باسمه ولا تاريخه، فهو صاحب التشبيه الذي يقول إنّه بات كقطعة أكسسوار يزينون بها العمل الفني، من المؤكد أنّ مشاعر الغضب تجاوزت واقع الأمر، ولكنّ ردود أفعال الفنان عادة ما تتّسم بالمبالغة".

 

ويضيف "الشناوي": "عمر محمود الجندي الفني 50 سنة، وخلال هذه الأعوام لم يحقق النجومية بمعناها الرقمي ولا الأدبي، لذا فهو لا يتقاضى الأجر الأكبر رقما، كالذي يناله حاليا النجوم الجدد، كما أنّه في طوال رحلته الفنية لم نر اسمه متصدرا الأفيش أو التترات، حتى عندما قرّر أن يدخل لعبة الإنتاج بفيلم «المرشد» قبل 28 عاما، حلّ اسمه ثالثا بعد شريهان وفاروق الفيشاوي، هناك دائما من يتحمل المسؤولية الأدبية للجذب، لم يحقّق الجندي النجومية، كما لم تُكتب له الأعمال الفنية مثلما يحدث مع الكبار من النجوم، إلا أنّ لمحمود الجندي مكانة حققها عبر تراكم السنوات والإنجازات الفنية، لا يمكن لأحد أن يغفلها، فهو يتمتع بقدر لا يُنكر من الاحترام. قرار اعتزاله كان دافعه الإحباط اللحظي".

 

إن افتقدنا ضحكة محمود الجندي وروحه المرحة وخفة ظله وبشاشته، فربما تغنينا مؤقتا وصلات البكاء التي سنجدها بوفرة على "اليوتيوب"، فقط ابحث بـ محمود الجندي يبكي.. وانهيار محمود الجندي من البكاء، وربما أيضا ستكتفي بالفرجة وكتم الصوت.

 

 

الفوازير لـ"نيللي".. و"نيللي" لنا جميعا

 

"تحية" لم تنس يوما "بدوية".. وصلات نضال سياسية بشعار الـ"كاريوكا"