التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 11:14 م , بتوقيت القاهرة

الكاتب المصري حينما يُعرف نفسه للغرباء أو للجيران..عن سرية "مهنة الكتابة"

ليس من السهل أن يُعرف الكاتب في مصر، نفسه إلى الآخرين، بقول أن مهنته الأساسية هي الكتابة، يحتاج إلى  مبررات أخرى، مهن أخرى ليعرف نفسه إلى دائرة أبعد من دائرة المثقفين والكُتاب الذين يعرفونه بحكم نشر الكتب، أو المشاركة في الفعاليات الثقافية، أنه المجنون الذي يختلف عمن حوله، المجنون بالفن، والفنون جنون.


حدثت لكاتب هذه السطور واقعة تصلح كبداية تُعرف القارئ أكثر بما أعنيه، إذ نشرت إحدى الصحف حوارا مطولا معي، بعد فوزي بجائزة، يومها قرأ بائع الخضروات الذي أتردد عليه، الحوار كاملا، وحينما عدت من عملي، واجهني باكتشافه لشخصيتي التي لم يكن يعرفها، قال لي الخضري: أنت كاتب..؟ وكتابك دا بيحكي عن إيه..؟


قد يتخوف الروائي أو القاص أو الشاعر في مصر من تعريف نفسه بهذه المسميات، فلا يمكنه أن يتوقف في لجنة " كمين أمني" ويسأله ضابط عن وظيفته، فيقول: شاعر، أو يقول " روائي"، إنها وظائف غير معترف بها، وغير معتمدة، لا يمكن لسجل مدني أن يسجلها، لأنها ببساطة تتطلب إثباتا من نوع خاص، قد يسير أحدهم بأعماله المنشورة ليثبت أنه كاتبها، حتى ذلك لا يصلح كإثبات في بطاقة الهوية.


 الروائيون والشعراء أعضاء اتحاد الكُتاب، لا يكتبون في وظائفهم أنهم "كٌتاب" ولا يكتبون أنهم شعراء، أو روائيون، ولا يكتبون حتى "أعضاء باتحاد الكتاب" عكس الصحفيين مثلا الذين يعتمد السجل المدني وظيفتهم في بطاقاتهم الشخصية، تحت مسمى "صحفي" وعلى الرغم أن الوظيفتين، الكاتب الروائي، أو الشاعر، والصحفي، يمارسان نفس الشيء، ألا وهو فعل الكتابة، إلا أن السجل المدني لا يعترف إلا بالمهنة الأخيرة.


نجيب محفوظ


في كتاب رجاء النقاش، "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" تطرق نجيب محفوظ لفكرة أن الوظيفة أهم للأسف من مكانة الأديب في المجتمع المصري، وفي هذا ظلم للأدب، قال محفوظ لرجاء النقاش: الوظيفة أهم شيء وهي القيمة والمكانة، ومصدر الوجاهة والنفوذ، والجميع يحرص عليها في أي مجال وجوائز الدولة تذهب كلها إلى موظفين كبار، لذلك لا استغرب رؤية أديب نابغ يبحث عن وظيفة في مؤسسة إعلامية أو صحفية، أو يرأس صفحة أدبية ليصبح نجما وليس بالقيمة الحقيقية، قد يكون إنتاج هؤلاء الأدباء جيدا، لكنهم لا يتألقون إلا إذا تمكنوا من الحصول على وظيفة تتيح لهم الترقية والظهور.


تمنى أديبنا في حواره المطول مع رجاء النقاش أن تختلف نظرة المجتمع إلى الأدباء، وهو ما لم يحدث من ساعتها.


في نفس الحوار بين محفوظ ورجاء النقاش، كشف الأول عن نصيحة الأديب كامل كيلاني- كاتب الأطفال- أن يبقي ممارسته لكتابة الأدب ونشر القصص طي الكتمان، وإذا سأله أحدهم عما إذا كان هو الأديب الذي تنشر الصحف له قصصا، فينبغي أن ينفي ذلك، كشف محفوظ لرجاء النقاش أن سبب النصيحة، تعرض كامل كيلاني لغيرة وحقد من زملائه الذين كانوا يسخرون منه لأنه "كاتب الأطفال" وحملوا له كراهية شديدة بسبب منزلته الأدبية.


أحمد الفخراني


يقول الروائي أحمد الفخراني لـ" دوت مصر" أنه يتهرب من تعريف نفسه بصفته الأدبية، ككاتب روائي، إذا تطلب تقديم نفسه إلى الجيران، أو أصحاب المحال في المنطقة التي يقيم فيها، يعُرف نفسه بصفته الصحفية، يقول الفخراني: إذا تصادف أن أحدهم عرف أنني كاتب، لا أقول أنني كتبت كذا وكذا، إنما انتقي مثلا كتابا من كتبي، فأقول: لدي كتاب عنوانه "عائلة جادو" مثلا، مشيرا إلى أن السؤال الصعب الذي يتلقاه دائما هو: بيحكي عن إيه، وهو ما يجعله يناور ليختار الإجابة السهلة.


وإذا تصادف أن رأى أحد جيرانه صورة للفخراني في صحيفة، تضمنت خبرا عن فوزه بأحد الجوائز، أو شيء من هذا القبيل، مثل تجربتي مع "الخضري" واسأله لماذا نعجز أحيانا عن الرد بما يشرح هويتنا ككُتاب..؟ هل لأننا لا نعرف كيف نصف أنفسنا للآخرين؟ أم لأننا نخشى الصورة النمطية التي يعرفها البعض عن الكاتب أو الفنان بصفته "مجنون" أم لأننا لا نثق في فهم بعض الناس لمهنة الكتابة؟


قال محفوظ لرجاء النقاش: الوظيفة أهم شيء وهي القيمة والمكانة، ومصدر الوجاهة والنفوذ


يقول أحمد: أعتقد أنه خليط من التصورات الثلاث، المسألة تشبه الحديث مع الأقارب عن الكتب التي نشرتها، حينما تلتقيهم في المناسبات العائلية، مع وجود تربص من جانب بعضهم لفكرة أنك مجنون، أو مهتم بشيء غريب، يردف أحمد: التصرف الغالب، حينما أتحدث ككاتب عن الكتابة، أنني اختار التصور النمطي الذي صدرته أفلام الأبيض والأسود. يضيف أحمد: عندما يعرف الناس أبناء الطبقة العاملة، أنك كاتب، يتعاملون معك باحترام أكثر، عكس الطبقة الوسطى، التي تنظر للمسألة بشكل غريب ومربك، البعض من أبناء الطبقة الوسطى يظن أنك تضيع عمرك، الانطباع الشائع لدى البعض أن الحياة الآمنة أفضل مائة مرة من ممارسة مهنة الكتابة، هذا عكس طبعا تصورات الناس التي تنتمي للطبقة العاملة، كما ذكرت في مثالك عن "الخضري".


الروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد


 الروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد، يشير إلى فكرة "الشيزوفرينيا" التي يعيشها الكاتب، وعاشها هو نفسه، حينما كان يعمل موظفا بوزارة الثقافة ، في مقتبل حياته الأدبية، وقتها كان يمارس الكتابة الأدبية، وينشر قصصا في المجلات والصحف، لكنه حينما يُعرف نفسه إلى الآخرين، اعتاد أن يقول: موظف في الشؤون الثقافية- حينما كان في مقتبل حياته الوظيفية- أو مسؤول سلسلة من سلاسل نشر الكتب في الوزارة، أو غيرها من الوظائف التي تقلدها.


يضيف إبراهيم عبد المجيد لـ"دوت مصر" أنه لم يضطر أبدا أن يُعرف نفسه ككاتب، بالنسبة لجيرانه، بعضهم حينما كان يعرف أنه روائي وقاص، كانوا يطلبون كتابا من كتبه، أما الآن، فالحياة اختلفت، والجيران صاروا أكثر تقوقعا على أنفسهم، وأكثر عزلة، يتذكر إبراهيم عبد المجيد طرفة حدثت له، في أحد الأعياد أراد أن يهنئ جيرانه بالمناسبة، فقرر أن يطرق أبوابهم واحدا تلو الآخر ليقول لهم: كل سنة وأنتم طيبين، جاره في الطابق الأرضي فتح الباب له متوجسا، وكذلك فعل الثاني، وهو ما جعله يقرر التراجع عن الفكرة ويمضي إلى شقته.


يحكي إبراهيم عبد المجيد عن شهرة الكاتب، وما قد تجلب له من مزايا، ومتاعب في آن واحد، يقول صاحب ثلاثية "الإسكندرية": حينما فزت بجائزة معرض الكتاب عن لا أحد ينام في الإسكندرية" صافحت الرئيس الأسبق مبارك، كانت مدة الصورة التي نقلها التلفزيون قصيرة، لكنها جعلت أكثر من 50 شخص يترددون عليّ طلبا لمساعدة في حل مشكلات، أو لمساعدتهم للحصول على وظيفة، وغيرها من طلبات الناس العادية التي تتوسم في الكاتب قدرته على إنجازها طالما كان مشهورا.


الكاتبة سمر نور


الكاتبة الروائية سمر نور، الحاصلة مؤخرا على جائزة ساويريس  الأدبية في مجال المجموعة القصصية، عن مجموعتها "في بيت مصاص الدماء" تعمل أيضا صحفية بجريدة الأخبار، تقول أن دائرة الأهل والجيران يعرفون أنها صحفية، وكاتبة رواية وقصة، لكن كل منهم حسب فهمه، أو ثقافته يستوعب التفاصيل العديدة أسفل هذه المسميات، تلفت سمر إلى أن حصولها على الجائزة جعل الفكرة تتضح أكثر في أذهانهم عن طبيعة ممارستها للكتابة.


عن شهرة الكاتب، وما قد تجلب له من مزايا، ومتاعب في آن واحد


لا تواجه سمر صعوبة فى تعريف نفسها ككاتبة أدب، حال سألها أحد العاملين بالمحلات المجاورة لمنزلها، لكن الأمر يقتضي شرحا واستفاضة، وغالبا ما تهرب من السؤال، بتقديم نفسها أنها صحفية، مشيرة إلى أنه إذا كان في الإمكان أن تشرح طبيعة الكتابة التي تمارسها، تحاول قدر الإمكان أن تشرح لأحدهم، لكنها تؤكد أنه في الغالب لا يفهم البعض معنى كلمة "كاتبة".


الظهور في الإعلام، بالغزارة التي يتسبب فيها حصول أحدهم على جائزة أدبية، تُقلق سمر نور، صاحبة رواية "الست" الصادرة حديثا عن دار العين، تقول سمر: أنا بكتب من عشرين سنة، أو أكثر، لكن تقلقني فكرة ظهور صورتي في جرنان بعد حصولي على جائزة، وأن تتحدد قيمتي عند الناس وفقا لهذا الظهور.


وتشير سمر إلى أنه لم يحدث أن استوقفها بائع في محل، ليسألها عن صورتها التي ظهرت في إحدى الصحف عقب نيلها جائزة، مشيرة إلى أنها تعرضت مثلا لموقف أن بعض الناس الذين لا تعرفهم من أهل قريتها اتصلوا بها ذات مرة، كما حدث أن استوقفها أناس قابلتهم في معرض الكتاب، ليصافحوها باعتبارها كاتبتهم المفضلة.


تقول صاحبة مجموعة" في بيت مصاص الدماء" أن مصر فيها ثقافة تقدير الصورة، أكثر من القيمة، والكثيرون يحترمون "أي حد يطلع على منصة أو مسرح"، تضيف سمر: هذه الصورة تجعل الكاتب نجما في نظر الشخص العادي، لأنها تساوي بينه وبين فنانه المفضل، أو ممثله الذي يحبه، لكن ذلك لا يعكس قيمة حقيقية للكاتب، أو لكتابته.


وتؤكد سمر فكرتها الرئيسية التي تتمنى أن تسود، هي أن يعرف الناس الكاتب عن طريق كتبه، وليس بشخصه، موضحة: مش مهم أن حد يعرفني في الشارع، بس مهم أن الناس تقرأ كتابتي.


اقرأ أيضا:"أوقفوها عن الغناء"..وثائق المعركة القضائية بين أم كلثوم وزكريا أحمد