التوقيت الثلاثاء، 26 نوفمبر 2024
التوقيت 01:08 ص , بتوقيت القاهرة

لماذا لا نريد استقلال القضاء؟

أظُنك مثلي، من الصعب أن تعتبر الكلام العام اللطيف إجابة عن هذا السؤال. أقصد التعبيرات من نوع "القضاء الشامخ" و"المكانة الرفيعة لرجال العدل والرسالة السامية التى يحملون أمانتها". ولا حتى تعبيرات من نوع "أن قضاء مصر مستقل لا سلطان عليه إلا سلطان القانون". فهذا كلام حسن النية، ولا أحد يُمكنه رفضه ولا التقليل من قيمته.


 لكن الحقيقة التي يعرفها الجميع، وعلى رأسهم رجال القضاء، أن الأمر يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك. يحتاج إلى إجراءات وقوانين تُمكننا تمامًا من الاطمئنان، وتمكن القضاة من الاطمئنان، إلى أن القضاء المصري "مستقل" تمامًا عن كل سُلطات الدولة وعلى رأسها السُلطة التنفيذية ورئيسها. 


وأظنك مثلي أيضًا لا تُريد الغرق في مستنقع التسجيلات المُسربة، التي تضع الكثير من الشكوك وعلامات الاستفهام حول ما حدث، وهل حدث فعلا؟ وخاصة أن الأطراف المعنية بالرد لم تهتم بأن تقول شيئًا يُطمئن الرأي العام، ومن رد منهم، في الحقيقة لم يكن جادًا، وزاد هذه الشكوك القاتلة. 


لكن دعني أنقل الأمر إلى الأمام، وأندهش من أننا لم نملُك حتى الآن الإرادة الكافية بعد ثورتين لتحقيق هذا الاستقلال، رغم وجود مشاريع جادة من قبل الكثيرين، وعلى رأسهم منظمات المجتمع المدني، ولكن "اتكعبل" ولم يصل إلى ما نريده. رغم تعدد واختلاف توجهات من حكموا البلد بعد ثورة يناير. 


ودعني أنتقل معك خطوة أخرى للأمام وأقول لك إن الاستقلال الكامل والحقيقي للقضاء، لا يحتاج معجزة، لكنّه يحتاج إلى ما هو معروف: 


* نقل تبعية التفتيش القضائي للمجلس الأعلى للقضاء، لأنه للأسف يتبع وزير العدل ووزير العدل يتبع السلطة التنفيذية، أي الرئيس والحكومة. ومن ثم من الصعب أن تطمئن إلى تحقيقاته، مع كامل الاحترام للعاملين فيه. فعلى سبيل المثال هو يحاكم الآن قضاة بتهمة أنهم عملوا بالسياسة وأصدروا بيانًا ضد ما حدث بعد 3-7، ولكنّه لم يحرك البلاغات ولم يحاكم الذين أيدوا  كل ما حدث بعد 3-7.


* الطب الشرعي يتبع وزارة العدل، وهو أداة أساسية في تحقيق العدالة. فكما تعرف القاضي يحكم بما أمامه. ومن ثم لابد أن نُمكنه من أدوات نزيهة وعادلة. ولعلك تتذكر على سبيل المثال القضية الأشهر الخاصة بمقتل خالد سعيد كان موقف الطب الشرعي قبل الثورة مختلفا عن بعدها. 


والأفضل أن يكون هذا الجهاز الخطير تابعًا المجلس الأعلى للقضاء حتى نطمئن جميعاً. ومثله خبراء وزارة العدل، وهم الذين يحققون في الجانب الفني في أي قضية ويضعون رأيهم أمام القاضي، وهؤلاء للأسف أيضاً يتبعون وزير العدل مثلهم مثل الطب الشرعي. 


* إنهاء سلطة وزير العدل في تعيين رؤساء المحاكم الابتدائية، وهؤلاء يتحكمون في القضاة الذين يعملون تحت رئاستهم في المكافآت والخصم والنقل والتأديب.  


ليس هناك قضاء بدون تنفيذ أحكام، لابد أن يتأكد أي مواطن أنه سيحصل على حقه. ومن المهم أن تنتقل تبعية إدارات تنفيذ الأحكام من الداخلية إلى المجلس الأعلى للقضاء لضمان نزاهة التنفيذ. 


* إنهاء الأشكال القضائية التي تقع خارج ولاية القضاء ومجلسه الأعلى، ومنها جهاز الكسب غير المشروع. ومع كامل الاحترام للعاملين فيه، فهو تابع لوزارة العدل، والأفضل أن ننتقل تبعيته إلى المجلس الأعلى للقضاء. وأظنك لا تحتاج إلى أدلة على أهمية ذلك. لكن على سبيل المثال راجع أسماء من تم التحقيق معهم أو منعهم من السفر منذ ثورة يناير وحتى الآن، فسوف تجد أنهم في الأغلب الأعم خصوم سياسيين. 


* وقف ندب القضاة للعمل كمستشارين في النقابات ومختلف مؤسسات الدولة، لأن القاضي الجليل في هذه الحالة يصبح خصما وحكما. على سبيل المثال لجنة التأديب في نقابة الصحفيين يشارك فيها قاضي، فماذا لو قررت رفع دعوى قضائية ووجدت هذا القاضي على المنصة؟!! 


* الوقوف بحزم ضد توريث القضاء. ودعني أقول لك الخبر الحزين، وهو أن كل التيارات السياسية متورطة في هذا الأمر.  فمنهم بعض المحسوبين على الإخوان وحلفائهم، ومنهم من هم محسوبون على مؤيدي من يحكمون الآن. وأرجوك أن تعود للأرشيف على الإنترنت حتى تراجع الأسماء، وتراجع تصريحات قضاة أجلاء يدافعون عن توريث القضاء لأبنائهم وأقاربهم. 


أظنك ستوافقني أيضًا على ضرورة أن تكون سلطات القاضي ومن ورائه المجلس الأعلى للقضاء أوسع على من يقومون بعمل التحريات وإحضار الأدلة في وزارة الداخلية. 


ولا أعرف هل يمكن أن تكون المباحث الجنائية تابعة للمجلس الأعلى للقضاء أم لا، لكن الأمر يستحق التفكير. فالكثير من القضايا "باظت" لأن هناك من أفسد الأدلة من رجال الداخلية ووزيرها الذي يتبع السلطة التنفيذية "يعني الحكومة". 


بالطبع استقلال القضاء لا يعني أبدًا أن يكون جمهورية مستقلة، كما يتخيل بعض القضاة. فهذا الاستقلال محكوم بالقانون والدستور. 


ولعلك تتذكر عندما خالف مجلس الدولة الدستور والقوانين ورفض تعيين المرأة، أو تجاهل أحكام قضائية بتعيين من لهم الحق. ولذلك يجب أن يكون القضاء مستقلاً عن باقي سلطات الدولة، ولكن ليس عن المجتمع. هناك العديد من التجارب في الدول الديمقراطية يمكننا الاستفادة منها. فميزانية القضاء تراجعها مثلاً لجنة برلمانية ممثل فيها كل الأحزاب والتيارات داخل البرلمان. منها مثلاً أن المجلس الأعلى للقضاء يضم في عضويته ممثلين لكل أطياف المجتمع، أو لشخصيات عامة لا خلاف سياسي حولها وبمعايير واضحة، ويضم في عضويته أيضًا أجيال مختلفة من القضاة. 


 فالهدف في النهاية هو أن تراقب عين المجتمع القضاة وليس عين الرئيس أو الحكومة.  من المؤكد أن هناك أفكارا أخرى تنقلنا من "الكلام الحلو، اللي لا بيودي ولا بيجيب" إلى استقلال حقيقي للقضاء، لكن هذا يحتاج إلى إرادة سياسية، ويحتاج إلى إرادة من المجتمع. 
فمتي نمتلك هذه الإرادة؟!