التوقيت السبت، 23 نوفمبر 2024
التوقيت 01:05 ص , بتوقيت القاهرة

عن هواجس جمال خاشقجي

انتشر مقال الكاتب السعودي جمال خاشقجي كالنار في الهشيم. هناك من وجد فيه ذخيرة يُدعم بها موقفه، وهناك من انشغل بالرد عليه وتفنيده. والمقالُ مهمٌ بالفعل، ومناقشته مطلوبة.


المقال، الذي نشرته الحياة في 21 فبراير الجاري، جاء تحت عنوان " حتى لا تسقط مصر في فخ داعش". جوهر المقال تحذيرٌ من الانجراف وراء موجة الحماسة التي صاحبت الضربة العسكرية المصرية في ليبيا، مع التأكيد على أن هذا هو موقف " محبٌ لمصر ومدرك لواقعها السياسي وقدراتها العسكرية. ولابد لمُحبي مصر أن يمنعوها من الوقوع في فخ داعش، وجرها إلى حرب في ليبيا".


الحجة الأساسية في المقال هي أنه لا بد أن يُعطَى الحل السياسي في ليبيا فرصة. اللجوء إلى الصدام – كما فعل حفتر- هو الذي سيلقي بالإسلاميين في أحضان داعش التي تتحين الفرصة لإشاعة الفوضى في ليبيا، لأنها تعيش وتنتعش على الفوضى. الحل إذن هو المصالحة الوطنية الجامعة (التي تشمل الإخوان المسلمين). 


المقال- كما ترى- به حجةٌ قوية، وقراءة سياسية للوضع الليبي. الرأي الذ ي عبر عنه يحتمل الصواب والخطأ، ويؤخذ ويُرد عليه. على أن الرسالة في المقال، كما يتبين للقارئ المتفحص، ليست بشأن ليبيا وصراعها السياسي، وإنما الحديث في صميمه ينصب على مصر. وبالتحديد على معنى ذكره الكاتب عابرًا رغم أنه يُمثل – فيما أعتقد- جوهر كلامه: دور مصر الإقليمي. 


يقول خاشقجي في ختام مقاله المُهم: "لدى مصر ما يكفيها من المشكلات، ومحبة مصر أن نبعدها وننصحها بعدم الوقوع في نكسة أخرى". هذه الفقرة بالتحديد هي بيت القصيد.


الفقرة تشي بقلق، حقيقي وليس مُتخيلاً، من دور مصري في الإقليم، أيًا كانت طبيعة هذا الدور أو أبعاده. العملية العسكرية المحدودة في ليبيا أيقظت هذا القلق الذي كان كامنًا. السبب في ذلك أن العملية تُعد- بالفعل- انقلابًا (محدودًا ولكن ذا مغزى) على السياسة المصرية كما عرفناها في العقود الماضية. 


هذه السياسة تأسست على "النأي عن المشاكل"، واعتبرت التورط في عمليات عسكرية خارج الحدود هو شرٌ مستطير ينبغي توقيه ما وسعنا ذلك. آخر عملية شاركت بها مصر خارج حدودها كانت حرب الخليج الثانية لطرد العراق من الكويت عام 1991. وقد جاءت مُشاركة مصر في هذه الحرب في إطار تحالف دولي وعربي قادته الولايات المتحدة. 


القلق يدفع الخاشقجي، ربما لا شعوريًا، إلى اعتبار "الضربة العسكرية المحدودة" بداية لتورط أكبر في حرب أوسع. وهو يُحذر من هذا التورط. ويستعيد –عمدًا هذه المرة- ذكرى النكسة. لماذا؟ لأنها اللحظة التي تحطم فيها آخر مشروع مصري للتحرك خارج الحدود. هذا المشروع لا ينطوي، بأي حال، على ذكرى طيبة لإخواننا في الخليج. في الستينيات، قادت مصر الناصرية مُعسكراً ثوريًا لتغيير المنطقة وإعادة تشكيلها على أساس من الأيدلوجية القومية والقيادة الكارزيمية للزعيم المصري. خاضت مصر الصراع في مواجهة عدد من النظم المحافظة في الخليج فيما عُرف وقتها بالحرب الباردة العربية التي مثلت الحرب اليمنية (1962-1967) ذروتها. كانت هذه الحرب في الأساس صراعاً بين مصر والسعودية.


طبيعي، والحال هكذا، أن يتوجس الكثيرون في العالم العربي من دور مصري جديد، خاصة وأنه لا أحد يعرف على وجه التحديد علام يتأسس هذا الدور أو ماذا يستهدف أو ما هي أدواته. طبيعي أيضًا، بالنظر إلى حال مصر المضطرب، أن تُساور بعض الدوائر مخاوف من أن تسعى مصر لأن تُصدر هذا الاضطراب الداخلي إلى العالم العربي، وفيه ما يكفيه من عوامل الاضطراب وأسباب الخطر والتهديد.


لا ينبغي أن نستهين بهذا الكلام أو نُسارع إلى دحضه وكأنه ينطوي على إهانة إلى ذاتنا القومية، ومعايرة بضعف قدراتنا. واقع الأمر، أن مصر تخوض الصراع الإقليمي اليوم من موقع الضعف لا القوة. 


في العقود الأربعة الماضية تعرضت قوة مصر الشاملة لعملية تآكل مستمرة. قابل ذلك صعود في وزن وإمكانيات قوى أخرى مُحطية على رأسها إيران وتركيا وإسرائيل. تراجع مصر كان واحدًا من الأسباب الرئيسية لتفكك النظام العربي وانكشافه في مواجهة هذه الأطراف الإقليمية.


مصر بالفعل قدراتها محدودة. وهي تعاني من حزمة متداخلة من المُشكلات والأزمات تبدأ من التراجع الاقتصادي ولا تنتهي عند خفوت جاذبيتها كمركز ثقافي. على أن ذلك كله لا يعني ألا يكون لها دور. المهم هنا هي حدود الدور كما تضعها، وأبعاده وأهدافه كما تعينها وتحددها.


دور مصر اليوم هو اضطرار لا اختيار. المنطقة تتعرض لهجمة كاسحة. فكرة الدولة الوطنية كما عرفها العرب بعد الحرب العالمية الأولى معرضة للانهيار. المدن العربية تسقط أمام أعيننا واحدة تلو أخرى تحت أقدام غزوات بربرية داعشية، أو بتغلغل جماعات وميليشيات تُحركها طهران. مصر، بقوتها العسكرية وثقلها السكاني وموقعها المتوسط، لها دور حتمي في مُجابهة هذه الهجمة التي تهدد شرعية النظام العربي، بل ووجوده ذاته.


خلال الأربعين عاماً الماضية، وبعد أن وقعت معاهدة السلام مع إسرائيل، وقفت مصر في قلب معسكر مُحافظ (يسمونه أحياناً بالمعتدل) يسعى للحفاظ على الوضع القائم، لا تغييره أو تثويره. بهذا المعنى خاضت حرب الخليج الثانية، وعلى هذا الفهم تأسس تحالفها الاستراتيجي مع الخليج.  مصر ما زالت تقف في هذا المربع السياسي. لابد أن يكون واضحاً أنها تنطلق في سياستها الحالية منه، لا من غيره.


لا أوهام لدى القيادة المصرية بشأن قدرات مصر وإمكاناتها وأزمتها المستحكمة والممتدة. غير أن ذلك لا يعني أن تجفل في مواجهة خطر، أو تتقاعس عن أداء مهمة، هي في واقع الأمر قدر مصر، في أوقات ضعفها وقوتها على حد سواء. التسويف لن يزيل المخاطر، بل سيفاقمها. في النهاية، لابد أن يخوض (أحدٌ ما) غمار هذه المعركة، وإلا سقطت المدن واجتاحتها قوى الظلام من دون قتال يُذكر، كما حدث أمام أعيننا في الموصل وطرابلس وصنعاء. مُدن أخرى ستنضم إلى القائمة إذا ركنا إلى التخاذل واستسلمنا إلى اليأس. الضربة العسكرية المحدودة في ليبيا رسالة أولية – محدودة كذلك- أن مصر لن تتخاذل في مجابهة هذه الأخطار. 


مهمٌ، مع ذلك، أن نضع في حسباننا مخاوف الآخرين وهواجسهم (كما يعكسها مقال خاشقجي). هي مخاوف تتأسس على تاريخ لا تزال ذكراه حاضرة، وهواجس تستند إلى قراءة للنظام المصري الذي مازال في طور التشكل. لا يكفي أن نهدئ هذه المخاوف بالكلام، ولكن يتعين أن نتبع الكلام بالفعل. بالعمل الجماعي المُنسق والمتضافر. نحن لا نُريد مجداً قومياً، أو نشوة شوفينية، أو استعادة ذكرى ناصرية. هذه كلها معان تسحب من رصيدنا وتخيف الآخرين من أهدافنا وتجعلهم في شك من نوايانا ومرامينا. 


هدفنا أن يستعيد النظام الإقليمي الحد الأدنى من تماسكه واتزانه. لابد أن نضع ما نملك من مصادر للقوة والتأثير-على محدوديتها- في خدمة هذا الهدف. يتعين أن نعمل مع الآخرين، حتى لو لم تتطابق الرؤى بشأن موقف محدد أو أزمة بعينها.


مقال الخاشقجي ليس سببًا للتراشق أو الاشتباك، وإنما فرصة لقراءة الصورة في شمولها حتى نتبين مواطئ أقدامنا في منطقة تمور باضطرابات وانفجارات غير مسبوقة.